عرض اللقاء التواصلي الرابع الفقيهة الأدوزية

Home / المقالات / عرض اللقاء التواصلي الرابع الفقيهة الأدوزية
عرض اللقاء التواصلي الرابع الفقيهة الأدوزية

بسم الله الرحمن الرحيم

 
اللقـاء التواصلـي الرابـع:
(الثلاثاء 25 ذي القعدة 1437هـ/ 30 غشت 2016م)
عـرض بعنـوان:
“الفقيهة السيدة رقية بنت العلامة محمد بن العربي الأَدُوزِيّة 
(والدة العلامة محمد المختار السوسي)
نمـوذج المـرأة المغربيـة العالمـة”
                                                        
                                                              للأستاذ عزيز برديك
(العرض مستخرج من الشريط المصور)
 
 الحمد لله والصلاة والسلام على مولانا رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد؛ فكم يسعد المرء إذا وجد نفسه بين أناس انصرفوا عن أغراض الدنيا المادية الرخيصة، وملأوا قلوبهم بالله والمحبة، وتعرضوا لخيرات ربهم ورضوانه، تلهج ألسنتهم بذكر الله، والصلاة على حبيب الله، تلك هي مجالس الفقراء الدرقاويين، أهل الله وخاصته، الذين لبوا نداء شيخهم، وجاؤوا من كل حدب وصوب، يحذوهم الأمل والرجاء، في نيل بركة الموسم السنوي للزاوية الدرقاوية الأم، والنهل من معينها الصافي، ما يسلي الأنفاس، ويشفي الصدور، وزاد بهاء هذا اللقاء، تنظيم ندوة علمية، أشرفت عليها جمعية الوفاء لبناء ورعاية متحف العلامة محمد المختار السوسي، بتعاون مع جمعية علماء سوس، في موضوع ذي أهمية بالغة؛ لأنه يسلط الضوء على شخصية لها كبير الأثر في زرع البذرة الأولى لنابغة الفكر والفقه والأدب والتاريخ، بل وفي كل صنوف المعرفة بسوس خاصة، والمغرب عامة، ذلكم هو سيدي محمد المختار السوسي، وتلكم الشخصية هي والدته السيدة الفقيه رقية بنت محمد بن العربي الأدوزية؛ نموذج المرأة المغربية العالمة المربية.
ويحصل لي الشرف الكبير اليوم، أن يعهد إلي بإعداد ورقة هذا الموضوع، شاكرا اللجنة المنظمة، الساهرة على تنظيم فقرات هذا اللقاء التواصلي، ومنوها من جهة أخرى بالجهود التي تبذلها في التعريف بأهل الفضل من العلماء والصلحاء، ولا يعرف الفضل إلا ذووه، ولا عجب فهم النخبة الممتازة من أبناء سوس، الذين يصدق عليهم قول العلامة الوزير سيدي محمد المختار السوسي، شباب سوسيون، نراهم منذ الآن كفجر يبشر بطلوع الشمس المشرقة.
ولا أدعي أني سأحيط بكل جوانب هذه الشخصية العلمية المميزة، كما حسبت في بداية أمري، فحسبي أن أشير إشارات قليلة، إذ لا يمكن أن أختزل حياة حافلة بالعطاء – وقد لمح الأستاذ الجليل سيدي عبد الله السَّعِيدي إلى جوانب هامة من هذه الحياة – والتضحية في دقائق معدودة، ليس ذلك بدعا من الأمر، أو حتى من باب النفل أن يخط القلم، معترفا بالأيادي البيضاء التي قدمتها نساء عالمات – وقد ذكر الأستاذ السعيدي في بداية كلامه؛ أننا في الوقت الراهن لابد لنا أن نعرف للنساء، كما عرفنا للرجال دائما، الفضل في تكوين علماء ونبغاء، أنجبتهم هذه الأرض السوسية المعطاءة – كالسيدة رقية الأدوزية في بناء قمم علمية بارزة في ميدان الفكر والثقافة بالمغرب، بل هذا من الحتم اللازم علينا جميعا نحن شباب اليوم، يقول المختار السوسي مستفهما عن هذا الوضع: “أفيجمُل بنا أن نتخطاها لأنها امرأة؟، ومتى عهد منا احتقار المرأة إلى هذا الحد؟، أم يجمل بي أن أتنكب ذكرها كي لا أسمع ما كن سمعه بعض أجلاء المؤلفين المعاصرين، وقد ذكر والدته في أثناء مؤلف له؟”، وهو الأمر الذي يجعلنا نبحث في صفحات التاريخ، لاستقراء الفضل العلمي للأمهات على أولادهم، قبل الوقوف على جوانب العلم والصلاح في شخصية الفقيه رقية الأدوزية، وإسهامها في تكوين الأستاذ العلامة محمد المختار السوسي، عن نماذج الناس المغربيات اللواتي عطاءات سخية في العلم والتربية على القيم الفضلى، إلى جانب عطاء الأمومة، الذي لا يشبهه عطاء.
وإليكم نماذج من نساء عالمات، وإسهامهن في الحركة العلمية
فطن العلماء المغاربة مبكرا إلى أهمية تعليم المرأة، وفتح المجال أمامها، لتسلق ذرى المجد العلمي الشرعي والأدبي معا، ويظهر هذا جليا بالقطر السوسي، فقد نهج بعض علماء سوس نهجا من أجل تقريب الفقه المالكي من النساء، لما علموا من أهل المرأة هي العنصر الفعال في تنشئة الأجيال والحفاظ على هوية الأمة، وعلى رأس هؤلاء العلماء الشيخ محمد بن سعيد المِيرغْتِي (ت.1089)، الذي ألف مختصرا فقهيا مبسطا، لابنته رحمة لتنقين وتعليم النساء أمور دينهن، أما الشيخ محمد بن ناصر الدَّرْعِي فقد وضع مقررا إجباريا لأهل بيته، قبل أن ينتقلن للتبحر في العلوم الأخرى، فبعد حفظ الناصريات للقرآن الكريم، يبعنه بقراءة المنظومات التي تكبها لهن الشيخ في التوحيد والعبادات والتوسل وغريها، فتتلمذ عليه ابنته سارة، التي خضعت لبرنامج فشابة علمة ناسكة أفادت النساء إفادة مشهودة، ورغبة في إفادة الناس وتحقيق التواصل مع لا يتقن اللغة العربية، عمد بعض العلماء إلى ترجمة بعض المؤلفات المعتمدة في الفقه المالكي للأمازيغية، مثل ما نجد عند الشيخ أَكْبِيل الهَوْزَالِي الذي ترجم مختصر الشيخ خليل إلى الأمازيغية، وسماه بـ: (الحَوْض)،  وكان مما استفاد منه الفقيه عائشة بن الطيب الأَغْرَّابُوئِية الأَكْمَارِيّة التي أتقنت هذا المؤلف وتصدرت مجالس الوعظ الخاص بالنساء في جهتها، إضافة إلى مساعدة زوجها فيما يتوقف عليه من الفتاوى بالرجوع إلى كتاب الفقيه المشهور بتبسيط الفقه بالأمازيغية وهو (أَوْزَال).
وكما نلت الشفوف في العلم والفقه، برزن في التصوف كذلك؛ فهذه فاطمة الهِلاَلِيّة، المعروفة بـ: تَاعْلاَّتْ، العالمة الصالحة السوسية الشهيرة، ترجم لها الحُضَيْكِي في طبقاته ووصفها بربيعة زمانها، ومما ينهض دليلا قاطعا أن المرأة المغربية أسهمت إساهما وافرا في التعليم والتربية وتخريج علماء وصموا صفحة الحضارة المغربية هو ما نجده في الخزانات المغربية من كتب الفهارس، فالفقيه العلامة أحمد السّْكِيرْج، بدأ فهرسته التي سماها بـ: “قدم الرسوخ فيما لمؤلفه من الشيوخ”، قال: أول شيخ لي على الحقيقة هي والدتي. ويقول العلامة محمد بن الحسن الحَجْوي: تأثير التربية الأولى في حياتي هي التي أوضحت لي أن الأمهات لهن الهضل كبير في تهيئة الرجال النافعين، كذلك العلامة عبد الحي الكتاني ألف كتابا في مناقب والدته، يشكره فيه على جهودها التي بذلتها في سبيل تنشئته تنشئة صالحة، وسماه بـ: “رقية المريدين بما تضمنته السيدة الوالدة من أحوال العارفين”.
والعالمة التي نحن بصدد الحديث عنها، هي العالمة رقية الأَدُوزِيَّة، هي رقية بن محمد بن العربي بن إبراهيم بن عبد الله بن علي بن  عبد الله بن يعقوب، ولدت  سنة 1301هـ، ونشأت وترعرعت في كنف والدها علامة جزولة  في عصره سيدي محمد بن العربي الأَدُوزِي كما وصفه بذلك العلامة سيدي محمد المختار السوسي، فكان يهم أن يدفع بها إلى الدراسة الواسعة في العلوم المعمقة بعدما أتقنت حفظ كتاب الله تعالى.
فما هي وظيفة هذه المرأة؟، ولماذا تزوج بها الشيخ سيدي الحاج علي الدرقاوي؟.
إن أهم ما فادت به هذه العالمة أهل بيت الشيخ الدرقاوي، وكل من يفد عليه من النساء والولدان؛ هو تعليمهم القرآن الكريم وأمور الدين، فكانت أول معلمة من النساء في (إِلْغْ)، ومهذبة البنات، قال العلامة سيدي محمد المختار السوسي: »فبها انتشر ما انتشر من ذلك فيهن، وقال: »وأول ما أعلنه عن والدتي هذه، أنها هي التي سمعت منها بادئ ذي بدء تمجيد العلم وأهله،  وإكبار تلك الوجهة، فكان كل مناها أن تراني يوما ما ممن تطلعوا من تلك الثنية، وممن يداعبون الأقلام، ويناغون الدفاتر، فبذلك كانت تناغيني، وذلك هو محور دعواتها حولي.
 أما عن أخلاق ومناقب هذه العالمة الصالحة؛ فهي كثيرو جدا، سأكتفي بذكر بعضها:
أولا: عرفت من أبيها، وبعض أخوالها وأعمامها، وبني أعمامها وأخوالها، وأجدادها الأَدُوزِيِّين، كيف التصرف بالعلوم، فكانت أمنياتها تدور حول ذلك.
ثانيا: أنها قد صحبت معها لوحتها (لوحة حفظ القرآن) يوم استقدامها إلى بيت زوجها، يقول في ذلك العلامة المختار السوسي: «وقد جاءت بلوحتها بين يديها يوم زفت من دارها إلى دار زوجها، وحينها جاء شيخها سيدي عبد الله الإِجْلاَلْنِي المَجَّاطِي فقبلت رأس شيخها، فكانت مجلة للعلماء.
 
 
وأما عن تصوفها ومجاهدتها:
فهي عالمة صالحة ذات همة عالية في جناب الله تعالى، خشية تقية متوكلة، يقول ابنها العلامة المختار السوسي: يوم عاشوراء سنة 1323هـ: أيقظتني فناولته كأس ماء زمزم، الذي هو لما شرب له،  وهذا سَحَر يوم عظيم، وهو مظنة لاستجابة، فاجرع منه وانْوِ، حتى يرزقك الله العلم الذي أتمناه لك. قال: فأرغت الماء في فمي بنيتها، في التي كانت تعرف ماذا تطلب، وما تنوي وما تنوي إذ ذاك، ثم استلقيت مرة ثانية في فراشي، ولا أكذب القارئ: لا نية ولا أقصد بشربي لما قدته لي بسرعة إلا أن أستمتع بنومتي لا غيرها.
أما تحصيلها العلمي: 
لقد درست هذه العالمة على يد شيخها سيدي أحمد بن عبد الله الإِجْلاَلْنِي المَجَّاطِي، قال: استدعاني الأستاذ سيدي محمد بن العربي سنة 1310هـ، فأمرني أن ألزم داره، وأعتكف فيه على تعليم أولاده وبناته، فخرجت إلي رقية في دراعة سوداء وفي رأس لوحتها: يَوْمَ يَفِرُّ المَرْءُ الآية، وكانت تتعلم قبل أن أتصل بها عند غيري، ثم دأبت عندي حتى ختمت سبع ختمات، وجودت غاية التجويد.
وأما زواجها من الشيخ سيدي الحاج علي الدرقاوي ودواعيه.
كان للشيخ الحاج علي الدرقاوي زوجتان، وكان له منهما ابنتان، فكان يقول: لابد من تعليم البنتين، فقالت والدة إحدى زوجاته: أليس سيدي موسى بن الطيب بأليق بذلك؟، فقال الشيخ: إننا نريد من يعلم ويربي ويهذب، لا من يعلم فقط، ولا يليق للنساء إلا النساء، فقالت تلك السيدة: طرق أذني بِبَعْقِلَية سيدي محمد العربي الأدوزي له بنات حافظات عالمات، وكانت أشدهن فطنة وذكاء السيدة رقية، وقد استظهرت كل القرآن دون أخواتها.
فكانت نعم الزوجة الصالحة الزاهدة، منسجمة مع زوجتي الشيخ الأخريين، ومع كل أهل بيته، سائرة وفق النظام الذي وضعه الشيخ لبيته ولأهله، فقد حكت أن أباها قد طلبها عنده في بيته، فلم تستجب لطلبه لأنها كانت ملتزمة بمهمتها نيطت بها، مراعية في ذلك نظام البيت الذي كان قائما على العدل بين الزوجات حتى في زيارة أهليهن.
وقد عرفت عند أهلها بهذا الصلاح والزهد، فهذا ابن أخيها الشاعر سيدي لحسن البُونَعْمَاني نظم قصيدة توسلية طويلة، وقد أدرج اسمها مع الصلحاء ممن ذكر، يقول: 
كذلك خالتي رقية هذبت   بنين أجلة كتهذيب هاجر
وسأختم بمسائل:
أولا: أن قصة هذه العالمة تستحق أن تدرج ضمن النماذج التي ينبغي أن تلقن للبنات، حتى يجعلنها قدوة، لما فيها من الدروس والفوائد والعبر.
ثانيا: أن من شأن علماء سوس أن يعطين بناتهن حقهن في التحصيل والتفوق العلمي، بل حتى بعد تزويجها من الشيخ الدرقاوي، طلب والدها أن تستكمل دراستها، فقام الشيخ بذلك بنفسه، نظرا لصعوبة الاستجابة لطلب والدها، ولانشغالها بتعليم البنات، وتعليم الوافدات على الزاوية، وغير ذلك من الأشغال.
ثالثا: الخلاف بين الشيخ الدرقاوي وصهره سيدي محمد العربي الأَدُوزِي في بداية الأمر، قد انجبر، والتأم الفتق، وقر الأستاذ الأَدُوزِي عينه، ذلك أن الشيخ الإلغي يكبر العلامة الأدوزي ويجله ويعد له عند قدومه ما يعلي به من شأنه لدى أهل البيت وأهل الزاوية وبين أهل القرية ككل.
فرحم الله العالمة الصالحة الزاهدة رقية الأدوزية، ورحم الله الشيخ سيدي الحاج علي الدرقاوي، ورحم الله العلامة سيدي محمد بن العربي الأدوزي، ورحم الله العلامة سيدي محمد المختار السوسي، ورحم جميع العلماء والصالحين، وألحقنا بهم مسلمين مؤمنين، آمين، والحمد لله رب العالمين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.