العلامة المختار السوسي مجدد قرنه (للدكتور أحمد أبو القاسم عضو المجلس العلمي المحلي لسيدي إفني)
العلامة سيدي محمد المختار السوسي مجدد قرنه؛ لأن قرنه الآن قد مضى عليه عقد نصف من الزمان، فهو قد عاش معظم القرن العشرين، واستغرقت أعماله ما يزيد عن أربعين سنة، من خلال أعماله التي جعلت منه مجدد القرن، بما فيها من زيادات، وقيم مضافة، وابتكار وتجديد، ولذلك اخترت أن يكون هذا العنوان: “العلامة المختار السوسي مجدد قرنه”. تحليل العنوان: يشتمل على الإشارات الموجزة التالية: الإشارة الأولى: التأمل في الحديث الشريف الصحيح المشهور، الذي أخرجه أبو داود في كتاب الملاحم، والحاكم في المستدرك، والبيهقي في معرفة السنن والآثار: “إن الله تعالى يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها”، وقد أورده السيوطي في الجامع الصغير، وصححه السخاوي في المقاصد الحسنة، وناصر الدين الألباني في السلسلة الصحيحة. وللعلماء في أبعاد الدلالية أقوال لا يعنينا الخوض فيها الآن، ولكننا نقف على الاسم الموصول (من)، وعلى دلالة (أمر دينهم)، لأنه هو لب الموضوع، وأقتصر على ما أورده ابن كثير في البداية والنهاية، قال: “وقال طائفة من العلماء هل الصحيح أن الحديث يشمل كل فرد من آحاد العلماء من هذه الأعصار ممن يقوم بفرض الكفاية في أداء العلم عمن أدرك من السلف، إلى من يدركه من الخلف، وفي الحديث: يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله”، ومن هنا يتضح أن من الموصولة المبهمة قد تفيد الأفراد، وقد تفيد الجماعات والهيئات، يسعون بما آتاهم الله من علم وحكمة، “وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا”، يسعون جاهدين ومجاهدين إلى تجديد أمور الدين الحنيف في كل جيل، المغبر عنه في الحديث بالقرن، وإذا عدنا إلى الظروف الزمانية والمكانية وموقع سيدي محمد المختار السوسي فيها، مواقفه، ومشوار سيرته المتكامل، وما له في المجامع المغربي، بل والمجتمع الإسلامي من بصمات، وعلى الفكر الإنساني من تأثير، على سبيل المثال: إن المعسول اليوم أخذ مكانه في الجامعات الغربية، في إطار دراسات علم الاجتماع، وما له في المجتمع المغربي من بصمات في الفكر الإنساني، نجد هذا الرجل العظيم الذي بزغت شمسه في مطلع القرن العشرين، وامتد به العمر المبارك في جهاد وأخذ وعطاء وإصلاح وبناء النفوس أزيد من ستة عقود، نجد هذا الرجل في دائرة هذا الحديث، وضمن (من) الموصولة هذه. الإشارة الثانية: مفهوم التجديد. من مفاهيم التجديد: جعل الشيء جديدا، وهذا يقتضي وجود أصول وقواعد وأسس وأن يكون هناك جديد، ولا يمكن أن يكون هناك جديد من غير قديم يعتمد عليه ويعضده، ولذلكم فالعلم السابق والمعرفة الماضية، وفهمهما واستيعابهما، شرط أساسي حتى يكون التصور والإدراك للواقع صحيحين سالمين، وبذلك يتم فهم الواقع وتفسيره، فيحصل بالضرورة التجديد، والتجديد الذي نعنى به الآن: قد يكون في الموضوع، وقد يكون في الأسلوب، وقد يكون في المنهج، وذلك كله يعني إدخال تعديل على ما هو شائع، شريطة أن يكون هذا التعديل إيجابا لا سلبا، تصحيحا لا مسخا. الإشارة الثالثة: من يكون مجددا إذا؟. يشترط في المجدد أن يكون ملما بالمعارف الأساسية، مستوعبا لتراثه، مطلعا على العلوم المختلفة، عالما بماضيه وحاضره، مدركا لحاجة مستقبله، ومن ثم فإن الغاية الأساسية من التجديد هي استمرار الحاضر على وثيرة العصر، دون الخروج عن سكة الأسس والقواعد التي هي الأصول، لتبقى رابطة الأواصر بين ماضي الأمة وحاضرها، وعلى هذه الأواصر يتأسس المستقبل الزاهر، وهذا كله على خلاف ما يسمى بالحداثة، التي من مفاهيمها: قطع الصلة بالماضي، وثروة العقل على النقل، فالداعي إلى الحداثة بهذا المفهوم مخرب، وليس مجددا، وأتذكر من تصريحات أدونيس في إحدى الجرائد: “أنا مخرب”، فالمجدد لابد أن يحقق أولا ربط ماضيه بحاضره، ربطا قويا يضمن بناء المستقبل، بناء إيجابيا صحيحا. ثانيا: فهم واقعه على ضوء ماضيه، وحاجات مستقبله. ثالثا: احترام ثوابت الأمة التي لا مجال فيها للتغيير ولا للعوض، لأي علة كيفما كانت. رابعا: إخضاع المتغيرات للثوابت، لا العكس، وهذه المتغيرات في الغالب هي نفسها السياسية الشرعية، أي: تدليل شؤون الأمة بما يلائم مصالح العامة، ما لم تكن هناك نصوص شرعية ضابطة. الإشارة الرابعة: هل العلامة محمد المختار السوسي مجدد؟. أقول بلا حرج: نعم؛ ويشهد بذلك له تبحره في علوم عصره، واستيعابه واستحضاره لماضيه، فكرا وتاريخا وأدبا، ولا أحتاج أن أقول: استيعابه للعلوم الدينية وقواعد الإسلام، لأن ذلك من باب تحصيل الحاصل، ولولا تحققه في ذلك، لما احتجنا للحديث عنه للكشف عن خصائصه الإضافية التي منها التجديد، وليس هذا من قبيل المبالغة، وإنما هي شهادات حية من علماء، أمثال سيدي عبد الله كنون، وسيدي عبد الله الجراري، وسيدي محمد بن أبي بكر التطواني، وغيرهم من العلماء الذين عاشروه ودرسوا معه وصاحبوه وعملوا معه، كلهم يثنون عليه، ويرفعونه فوق رؤوسهم. وأوجز الإرهاصات التي أشرت إليها فيما يلي: أولا: البنية الإلغية التي نشأ فيها وترعرع. ثانيا: المجد المؤثل الذي ورثه من أبويه، فهو ابن العالم، وابن العالمة بنت العالم (السيدة رقية بنت العلامة محمد بن العربي الأدوزي)، وأبوه العلامة الشيخ سيدي الحاج علي الدرقاوي الإلغي. ثالثا: طموحه الطويل العريض، الذي لم يفارق نفسه وعمله رمشة عين إلى أن لقي ربه راضيا مرضيا، وعنه يقول عارفيه من العلماء: كان لا يفارق كتابا مهما كانت الظروف، ولا تجده أبدا إلا مدرسا، أو قارئا في كتاب، أو مؤلفا لكتاب. رابعا: صبره الدؤوب وتجلد الدائم لنوائب الدهر التي دهته أكثر من مرة، بما في ذلك ضيق اليد، ومضايقات الاستعمار الفرنسي قبل الاستقرار في مراكش وبعده، ولكن هذا كله لم يثن عزمه على المضي قدما في تجديد قرنه. خامسا: الاحتكاك المباشر بالأقران في سوس وخارج سوس، والمنافسة الشريفة بينه وبينهم في إدراك المعالي في زمن الأخذ وفي زمن العطاء. سادسا: أخذه المباشر عن شيوخ أجلاء، متيني العلم والدين، وآخرهم الشيخ المجدد أبو شعيب الدكالي، وهو الذي نفث في قلبه روح التجديد. سابعا: اطلاعه الواسع، وإدمانه الحارق على المطالعة والتأليف والتدريس، فحياته كلها موزعة بين هذه الثلاثة، على جانب واجباته الاجتماعية والأسرية والدينية. ثامنا: ولوعه الشديد بكل جديد كيفما كان نوعه، لا يحتقر أي شيء، بما في ذلك الفنون الأدبية، من روايات ومسرحيات وبما في ذلك المترجمات من مقالات وكتب. تاسعا: اهتمامه الكبير بجميع العلوم، وإن بدا لمن لا يعرفه أنه مجرد مؤرخ أو فقيه، بل هو العلامة الموسوعي، المناقش في شتى العلوم. عاشرا: جولاته خارج المغرب، واحتكاكه بالعلماء والمفكرين، ولاسيما في الجزائر وتونس والسعودية، وكان دائما يقول: من لم يخرج من حجر أمه، ليس بشيء. الإشارة الخامسة: معنى التجديد في أمر الدين. سبق لنا الحديث عن الثوابت في الدين، وهي الأمور التي فصل فيها الوحي المنزل، وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وتبقى الأمور الأخرى التي بها يقوم الدين، وتسلم جوانبه من التحريف والتغيير، وهي الأمور التي تتكامل باعتبارها وسائل لفهم الدين فهما صحيحا وفق مستجدات العصر، وفقه الواقع، ومنها: أولا: علوم اللغة العربية، باعتبارها وسيلة لفهم الدين فهما صحيحا، لكن العلامة سيدي محمد المختار السوسي، وغيره من العلماء لم يقتصروا في تبليغ الدين على اللغة العربية فقط، بل أضافوا إليها اللهجة المحلية، أو اللغة الأمازيغية بحسب مناطقهم، وهو مكسب شريف في التجديد، وقيمة مضافة لعمل سيدي محمد المختار السوسي وتبلغيه لرسالته، فهو مجدد في هذا الجانب، وعلم بأن اللغة هي من وسائل التجديد. ثانيا: بقية العلوم الأخرى، وخاصة منها التاريخ والجغرافية والأدب -وبها اشتهر أكثر من غيرها- والفكر وعلم الاجتماع وعلم النفس، ثالثا: الإحاطة بالواقع المقارن، واستيعاب مستجداته، وحاجات الإنسان في حياته، يعني أن يعرف واقعه وواقع معاصريه، وهو ما يعرفه سيدي محمد المختار السوسي، ويعرض نماذج منه حين يتحدث عن واقعه. وهذه الأمور كلها إذا كانت طوع عقل العالم، يكون مجددا في أمر الدين بلا ريب، والعلامة سيدي محمد المختار السوسي م أبرز من توافرت وتظافرت في عقله وتفكيره هذه الأمور، فنتج عن ذلك إسهامه الكبير في النهضة المغربية وتجديد أمور الإسلام، ومثال عن ذلك مناقشة فتوى ثبوت رؤية الهلال بالهاتف. الإشارة السادسة: أهم مظاهر التجديد عند العلامة سيدي محمد المختار السوسي. وسأركز على بعض القضايا التي من شأنها أن تميط لنا اللثام عن جهود هذا العلامة في التجديد، وبصماته الواضحة في النهضة المغربية المعاصرة، في عصره وما بعده. أولا: في التاريخ: إن تاريخ العلامة سيدي محمد المختار السوسي، وخاصة في المعسول لا يعنى بالأحداث باعتبارها أحداثا، ولكن باعتبارها مظاهر تعكس النمو الحضاري أو جموده. ثانيا: في الظواهر الاجتماعية: من عادات وتقاليد ولغة وأسباب المعيشة، ومن خلالها تتضح صورة المجتمع الكبير، عقيدة وسلوكا وفكرا. ثالثا: في التربية والتعليم: وهو هاجسه الأول ومتنفسه، فكانت بدايته بعد نهاية دراسته العليا على أزيد من أربعين عالما ممن يقام لهم ويقعد، فكانت البداية بإنشاء مدرسة بزاوية الرميلة بمراكش، وهي أول زاوية درقاوية -حسب ما أعلم- بها إلى جانب المريدين طلبة علم، وقد بذل العلامة سيدي محمد المختار السوسي جهودا مضنية ومتواصلة في النهوض بمدارس سوس العلمية، نهضة حقيقة ترجعها إلى مكانتها العالية في علومها وثقافتها ودينها تخريج العلماء، وقد توجت هذه الجهود بتأسيس المعهد الإسلامي بتارودانت. رابعا: كثرة التأليف وتنوعها، وهي تربو على الخمسين مجدا في علوم مختلفة، فكانت الفاتحة في: مراكش في عصرها الذهبي، ثم سوس العالمة، ثم المعسول، هذا الأخير الذي يتجلى التجديد فيها أكثر في منهجها الفريد، الذي تحول به المعسول من تاريخ (إِلْغ) الذي كان مقصدا أساسيا، إلى تاريخ المغرب، بل إلى تاريخ الحضارة الإنسانية برمتها، ثم المذكرات التي تحولت عند العلامة سيدي محمد المختار السوسي من مجرد الحديث عن الحياة الشخصية إلى دائرة معارف تشمل المجالس العلمية، وتشمل الندوات، والمساجلات، والتراجم، إلى غير ذلك، وهذه الموسوعة من السيرة الذاتية التي تفرعت عنها سير ذاتية كثيرة، بل تحول بعضها مثل معتقل الصحراء إلى تراجم من نوع خاص، ثم المقالات الكثيرة التي كان نشرها في جرائد مغربية في وقتها، وفي دعوة الحق بصفة أخص فيما بعد، وهي كلها تنبئ عن مستواه العالي فيما يتعلق منها بالنقد الأدبي أو النقد الاجتماعي أو الدعوات الإصلاحية، وكلها مليئة بملامح التجديد، وهو ما رشحه عند من عرفه من العلماء ليكون مجدد قرنه بلا منازع. وناهيك أيضا بالمحاضرات ودروس إذاعية، ودروس الوعظ. أما الإبداع الشعري فحدث ولا حرج. خامسا: التجديد في السياسة: فالسياسة عنده غير البهرجة، هي شبيهة بسياسية محمد عبده، فكما نعلم فسياسة محمد عبده مخالفة لسياسة جمال الدين الأفغاني، كان يريد أن يصلح الأمور من القمة ففشل علمه، بينما الشيخ محمد عبده بأن السياسة والإصلاح لا يبدآن من الأعلى إنما من البيت والأسرة ومن الشارع، فأفلح بذلك، ونجح مشروعه، وخاصة فيم يتعلق بإصلاح التربية والتعليم في الأزهر. أما العلامة سيدي محمد المختار السوسي فهو أكير من ذلك، إذ إنه لا يصرح بالسياسة أبدا، ولكنه بدلا من أن يؤسس حزبا يبني مدرسة، لأنها منطلق كل شيء، والدليل ما تخرج من مدرسة الرميلة من زعماء السياسة المغربية المشهورين، ومن أجل ذلك نفي من مراكش إلى (إِلْغ)، فالعلامة سيدي محمد المختار السوسي يرى أن العدو الأول للوطن والمواطن هو الجهل. سادسا: تأسيس الجمعيات. وأول جمعية أسسها في فاس وهو طالب مع مجموعة أصدقائه، هي في الحقيقة جمعتان: الأولى ثقافية، وفيها يلزمون أنسفهم بحفظ ما يجب حفظه، وإعداد المحاضرات، والخطب لتكوين ذواتهم. والثانية سياسية: أسندوا الرئاسة الأولى لسيدي محمد المختار السوسي، وهو ما يدل على مكانته العلمية، وأسندوا الثانية للزعيم علال الفاسي، إلى جانب ذلك هناك تأسيس الجمعية الإسلامية الخيرية في مراكش، التي كان يترأسها، ولقيت ما لقيت من عناد الاستعمار في ذلك الوقت، ثم لما رجع من منفاه إلى مراكش، أول عمل قام به، تأسيس مجمعية مدارس بني دغوغ، فاختير رئيسا لها. خاتمة: وخلاصة القول أن العلامة سيدي محمد المختار السوسي أمة وحده، ومجدد قرنه، ولله ذر القائل: وليس على الله بمستنكر أن يجمع العالم في واحد ومن تجديده في مقدمة المعسول بعنوان: الغد، فالمسعول فيه بين الأمس واليوم والغد: يقول: “نحن نوقن أنه سوف يأتي يوم يثور فيه أولادنا أو أحفادنا ثورة عنيفة ضد كل ما لا يمت إلى غير ما لآبائهم من النافع المحمود”. وهل هناك تجديد أكير من هذا؟ “ثم يحاولون مراجعة تارخيهم ليستيقنوا منه كل ما يمكن استدراكه”. ولا يسعني أن أقول إلا ما قاله ما قاله العلامة سيدي محمد المختار في شيخه أبي شعيب الدكالي: باي لسان يا شعيب تترجم فعمرو بن بحر عند وصفك يبكم فما مسهب إلا يقول برغمه أخيرا وإن طال المدى الله أعلم