العلامة السوسي: ذكر وذكرى
ذ. المهدي بن محمد السعيدي
جامعة ابن زهر- أكادير
إن من علامات قوة الأمم وسلامتها ارتباطها بماضيها المجيد واحتفالها بأعلام تراثها العريق، وعملها الدائم الحثيث على الاستفادة من فكرهم المبثوث في مؤلفاتهم، للحفاظ على قيمها وترسيخ ثوابتها، فبقدر ارتباط المجتمعات بسلفها الماجد يتحقق لها الاستقرار وتتعافى مما تصاب به المجتمعات المريضة التي تنخرها الأمراض وتعصف به الأوبئة الفكرية والنفسية.
ويعد العلامة محمد المختار السوسي من أعلام المغرب العظام ومؤلفيه الكبار الذين مكّنوا مجتمعنا المغربي المعاصر من الاتصال بتراثه الغني والتبصر في الاستفادة منه واستثماره في الواقع والمجتمع والاقتصاد والفكر والأخلاق والقيم, لقد نظر السوسي إلى التراث نظرة منصفة، فلم يقبله على علاته، ولم يرفضه كله، بل كاله بمكيال الشريعة والواقع والعقل، فقبل ما ينفع ورد ما يضر، كما أنه كان ينظر إلى الحاجات الآنية والتحديات الوقتية حينما جمع التراث ودرسه، فلم ينغلق دون الحاضر ، ويفر إلى الماضي كما يفعل كثير من أبناء العصر، وإنما حاول أن يستمد من الماضي ما ينفع لمجابهة انكسار الحاضر وضعفه، وقد مكنه الاطلاع الدقيق على الواقع المعاصر، والمعرفة القويمة الصحيحة بفكر الغرب وتصوراته وسطوته، من أن يركّب معادلة دقيقة تُوازن بين الاعتصام بالتراث والانفتاح على الحداثة الغربية، دون تفريط في العقيدة وقيم الأمة وخصوصيات الوطن، مع النهل من حضارة العصر وتطوره التقني وانفتاحه الفكري.
لقد وضع السوسي هذه المعادلة الصعبة وبثها في كتبه المختلفة، بعد أن أفنى أيامه في لم شتاتها، وقد كان لا يفتأ ممتشقا قلمه، متنقلا بين الجبال والسهول والمدارس والدور، جامع ومنقبا وباحثا مدققا.
لقد كان مشروع السوسي أن يعيد ترميم ملامح الحضارة المغربية العريقة التي رآها مثل فسيفساء جميلة في عرض حائط جامع عريق في إحدى مدن المغرب، تناثرت أجزاؤها عبر الزمن، وطوح بها الدهر، فتشتت في كل ركن قصي، حتى لم تبق منها إلا ملامح قليلة لا يتبين منها الجمال والجلال والمهابة إلا من آتاه الله البصيرة النافذة، أما من أعشت أعينهم مصابيح الكهرباء فلا يرون منها إلا حطاما ذهب الزمان برونقه، حتى أصبح قذى في الأعين، فلا يستحق إلا أن تحمل الفؤوس لهدمه وحمله لإلقائه في المزابل.
ولقد كان العلامة السوسي يعلم أن غالب أبناء جيله المختلفي الأفكار والمشارب، لا يمكنهم أن يدركوا ولا يفهموا هذه المعادلة التي وضعها، ولا ذلك التوازن الدقيق الذي سطره، نظرا لما شغلوا به من هموم وأشجان آنية، فعوّل على المستقبل وعلى الأبناء والأحفاد، الذين رجا أن يفهموا قصده وينهضوا لإتمام تلك الفسيفساء التي جمع كثيرا من أجزائها وأعادها إلى أماكنها، حينما تظهر لهم ملامح الجمال والرونق العجيب والتناسب التام في مكوناتها وتناغم ألوانها، ثم ينتقلوا إلى الاستفادة من طريقة تصميمها ومواد بنائها لإنجاز لوحات أخرى أكبر حجما وأكثر تألقا وجمالا…
وإن مما يعجب له المرء وهو يتأمل مسار البحث في فكر العلامة السوسي والاهتمام بتراثه، صدق فراسته وتحقق نبوءته، فلم يهتم كثير من الناس المعاصرين له بكتبه، ولا فكره، وانقضى ما يقرب من عقد من الزمن قبل أن يحتفى به في أول بادرة جماعية من خلال عدد خاص بمجلة المواهب التي كانت تصدر بمعهد محمد الخامس للتعليم الأصيل، وكان الشاعر الأديب محمد العثماني قد نشر عنه قبل ذلك مقالا في مجلة الكلمة التي كانت تصدرها جمعية علماء سوس، ثم لم تكد تحل سنوات الثمانين من القرن الماضي حتى نوقش أول بحث جامعي حول العلامة السوسي، أنجزه الأستاذ الباحث المقتدر الدكتور محمد خليل حفظه الله، ثم توالت الدراسات والأبحاث والندوات تترى حينما أعادت الأجيال الجديدة اكتشاف تراث العلامة السوسي والاستفادة منه، فرأت فيه سعة الاطلاع وعمق التحليل ودقة الانصاف، وتفاوتت أنظار الباحثين في فهم مقاصد السوسي من مؤلفاته وتقويم مكانته ومنجزه، بين من فهموا واستوعبوا واستفادوا، وبين من رجموا بالغيب والظنون، فلم ينالوا من الإدراك ] إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ.[
ومن الإنصاف أن أشير إلى فضل أنجال العلامة السوسي الكرام، في إحياء تراث والدهم وترويجه والتعريف به، حينما نهضوا بعزم وتصميم إلى نشر المخطوط، فأخرجوا طائفة من كتبه الثمينة، وأتحفوا القراء بنفائسها وعملوا على مدى عقود على تحقيق مقصد والدهم الكريم، وضربوا أروع الأمثلة في الوفاء والتضحية في إفادة الأجيال وإغنائها، في وقت أقبر فيه كثير من الأبناء مؤلفات آبائهم ومنعوا الناس من الاطلاع عليها مخطوطة أو مطبوعة، بل منعوا أشعة الشمس من الوصول إليها.. ونشير هنا إلى جهود السيد عبد الوافي رضى الله المشرف على طبع تراث والده، وإغنائه بالتصحيح والتعليق والتقديم..
وإن مما يسر ويسعد أن نرى هؤلاء الأبناء البررة قد قسموا بينهم الأدوار، وتعاونوا على البر والتقوى، فاتجه بعضهم لنشر الكتب المخطوطة، وعمل آخرون على إعادة نشر المطبوع، واهتم آخرون بالتقنيات الحديثة للمعلومات وجمع كل ما كتب عن السوسي ونشره على المواقع الشبكية، ومنها موقع محمد المختار السوسي الذي يشرف عليه السيد أحمد رضى الله بمعية ثلة من الغُيُر المهتمين بتراث والده، فنراه يجتهد في جمع كل ما كتب عن والده ونشره من نصوص فريدة وكتابات نادرة، ويورد في هذا الموقع ما يشفي الغليل ويقر العين، وهو مع ذلك مهتم بتنشيط الجمعية التي أسسها بمعية بلدييه الإلغيين لافتتاح متحف العلامة السوسي في مسقط رأسه إلغ، وجعله موئلا للباحثين والمهتمين، واختار لهذه الجمعية اسما دالا على ما يكنه لوالده ولتراثه، وهو جمعية الوفاء.
إن هذه الأعمال التي يقوم بها أنجال السوسي الكرام لتدل على سير الخلف على خطى السلف، ويضرب للوفاء الحضاري والعلمي للآباء أروع الأمثلة، كما تنبيء بشعورهم بالمسؤولية الملقاة على عاتقهم، ويزكي ذلك ما كنت أراه من ابن عمهم الأستاذ عبد الله درقاوي رحمه الله الذي كان يحمل هذا الهمّ معهم إبان حياته، من عمل على الإفادة بكل ما يستطيع، وإن من الأمور التي ينبغي أن نسجلها للتاريخ، وقد حدثني بها قبل وفاته، أنه كان يعمل على تمكين أساتذة كلية الآداب بالرباط على امتلاك مؤلفات العلامة السوسي خاصة كتاب المعسول، ولو بالتقسيط المريح، وكان يرى أن وجود المعسول وإخوانه في مكتبة أي أستاذ مظنة لاهتمامه به واعتماده في دراساته، وكذلك كان، فما أن توفر عدد من الأساتذة على تلك المؤلفات حتى بدأوا يدفعون الطلبة إلى البحث فيها في مستوى الإجازة، ثم انتقل الأمر إلى الدراسات العليا، في مستويات الدبلوم وأطاريح الدكتوراه، ثم بدأت تنشر المقالات والكتب والدراسات.. وأول الغيث قطرة ثم ينهمر.
وأخيرا ها هو موقع العلامة السوسي يحتفل بمرور عامه الأول، وقد امتلأ وطابه بالدراسات والأبحاث والمقالات المهمة فضلا عن التسجيلات والمرئيات النادرة العزيزة الوجود، وها هي الأنظار تتجه إليه، والزوار يملأون ساحاته، ويتلمسون ما يفيدهم حول هذا العلامة المغربي العظيم الذي نفخر بالانتماء إليه أصلا وفصلا، وحسا ومعنى، ويفخر كل مغربي بالاطلاع على أعماله وتراثه، فجزى الله القيمين عليه، ونحن نرى تطلعهم إلى مزيد من النجاح والتوفيق، وما من شك أنهم سيحققونه بحول الله، حينما يستمر مسارهم الموفق نحو جعل هذا الموقع مرجعا أساسيا معتمدا في كل ما يتعلق بوالدهم المنعم، نسأل الله لهم التوفيق والسداد، ورحم الله العلامة السوسي رحمة واسعة، آمين والحمد لله رب العالمين.