ظلت الكتابة التاريخية للعلامة محمد المختار السوسي محط اهتمام العديد من الباحثين والمؤرخين، بالنظر إلى غزارتها وتنوعها من جهة وتميزها وغناها من جهة أخرى. ذلك أنه “زاوج في تعامله مع النصوص بين الرغبة في تخليق الثقافة السوسية والالتزام بضوابط الأمانة العلمية؛ أي بين إرضاء شخصية الفقيه المحافظ، وشخصية المؤرخ الأمين.” فخلف بتميزه تراثا علميا كبيرا وغنيا: مخطوطا ومطبوعا، تعددت واجهاته بين الأدب والتاريخ والتربية والتعليم والفقه والتصوف.
اعتمد السوسي في ذلك على العديد من الفنون؛ كفن التراجم الذي مافتئ يعتمده اعتمادا جليا في كافة مؤلفاته، إلى جانب الكتابة الرحلية التي طبعت مساره التكويني منذ شبابه، وميزت أعماله ومؤلفاته؛ بالنظر إلى التنوع الذي طبع إنتاجاته الفكرية المخلدة، خصوصا كتاب “خلال جزولة” بأجزائه الأربعة، والذي ألفه بعد محنة الإقامة الجبرية التي فرضها عليه الاستعمار؛ نتيجة نضاله الوطني في سبيل استقلال البلاد. والتي دامت خمس سنوات متتالية بمسقط رأسه إيلغ. تلك الرحلات الجزولية التي نفذها العلامة مباشرة بعد السماح له بقليل من الحرية بثلاثة أشهر فقط، ما يفسر جسامة العطش العلمي والمعرفي الذي عانى منه المؤلف، فقد جاء التصريح بإطلاق السراح في 13/12/1960 وبدأ رحلته الجزولية الأولى في مفتتح ربيع الثاني 1361، يقول في هذا السياق: »فأرسلت عيني إلى الأمكنة التي فيها طلبتي، وفي خزائنها رغبتي، وبين صدور رجالها أمنيتي، فرأيتها شتى « وكأننا به يعلن عن مصادر معلوماته، وعن أدوات بحثه التي تبدو جلية من خلال البحث الميداني، والبحث عن الكتب والمراجع واستقصاء الأخبار من الرواية الشفوية أو مما درج على تسميته “من أفواه الرجال”، ثم بدأ بتنفيذ رحلته الأولى؛ »فكان شهر ربيع الثاني عام 1361 هو عين ذلك الشهر سافرنا في مفتتحه ورجعنا في مختتمه « في إشارة إلى تخطيط مضبوط لإيقاع زمني محكم؛ كيفلا وقد تفوق في غضون شهر واحد في بلوغ مقاصده فيما بين تزنيت وأكادير وتارودانت، واستطاع بنجابته ونبوغه وقوة شخصيته أن يحصل على تراجم عديدة، وكتب نفيسة، ومعلومات قيمة ومختلفة، أثرى بها مختلف كتبه وبالأخص موسوعته المعرفية “المعسول”. معتبرا كافة مجهوداته الفكرية منطلقا لباحثي الغد، وإنصافا في التأريخ للقطر السوسي، “وفتحا للتاريخ أمام كل الذين شاركوا في صنعه دون أن يكون حكرا على أسر أو فئات معينة دون غيرها” .
يعرف أدب الرحلة بكونه ذلك “الأدب الذي يصور فيه الكاتب ما جرى له من أحداث وما صادفه من أمور أثناء رحلته. وتعد كتب الرحلات من أهم المصادر الجغرافية والتاريخية والاجتماعية؛ لأن الكاتب يستقي المعلومات والحقائق من المشاهد الحية، والتصوير المباشر، مما يجعلها قراءة ممتعة ومسلية”. ويعتبر محمد المختار السوسي واحدا من أهم الرحالة الذين دونوا رحلاتهم بالمغرب عموما وبالقطر السوسي على وجه التحديد في النصف الأول من القرن العشرين. فأفادنا بملاحظاته وانطباعاته ومشاهداته عن الأماكن التي كانت مسرح رحلاته، وبفضل كل ما دونه ازددنا معرفة بمنطقة؛ سوس سواء من الناحية التاريخية أو الجغرافية أو ما ارتبط بالمؤسسات العلمية والدينية والاجتماعية.
لقد سدت كتاباته التي تربو على السبعين كتابا، فراغا كبيرا كان يستشعره الباحث في تاريخ سوس. فقام بجمع الأخبار والنصوص والوثائق في كافة المجالات؛ سواء ما تعلق بالأدب أو بالسياسة أو بالتاريخ أو بالثقافة والاجتماع. وأدرك بنبوغه وفطنته المعهودة أن الهدف لا يمكن تحقيقه إلا بإعمال الرحلة والتجوال؛ للقاء العلماء وزيارة مراكز العلم والثقافة والتصوف؛ كالمدارس والمكتبات والزوايا. ويبدو النفس الرحلي واضحا في جل كتاباته، وخصوصا “خلال جزولة” بأجزائه الأربعة؛ بالنظر إلى ما أثبته فيه من تراجم الأعلام والأخبار والقضايا.
يقول السوسي في سياق حديثه عن منهجه في الرحلات: “وعادتي في رحلاتي تتبع المخطوطات من مؤلفات السوسيين، فأصفها وصفا شافيا. وأما المخطوطات من غيرهم فلا أعيرها أهمية كبرى ما لم تكن من النوادر أو من الغريب وجودها في سوس. كما أتتبع دفات الكتب حيث يألف السوسيون من قديم كتابة التاريخ والوقائع والوفيات وكم جمعت من المجامع من دفات الدفاتر والكتب العادية من هذه الفوائد، ثم أنظم ذلك في سلك الرحلة.” فجاءت الرحلات الجزولية الأربعة في نواحي سوس بعد أن أذن له المستعمر في التنقل من منفاه بمسقط رأسه إيلغ، سجل فيها كل ما يراه يستحق التسجيل، مع ذكر الأحداث التي شاهدها، ورجال النواحي التي زارها، وتاريخها، وأحوالها. وذكر كذلك العديد من محتويات الخزائن التي رآها، واستنسخ العديد من المؤلفات والوثائق والشهادات.
صرح العلامة بدواعي الكتابة الرحلية لديه في مقدمة الجزء الأول من “خلال جزولة”، وذلك حين قال: “فأردت أن أودع هذه الرحلة ما أراه نافعا من ذلك مما يلفت أنظار المطالعين في الرحلات، كما كان قبل ذلك المسافرين أمثالي ممن يركبون متون الرحلات […] هذا على أننا لا نعنى كثيرا إلا بالجهة العلمية التاريخية التي فطنا بها همتنا.” متبعا ذلك بذكر منهجه في السرد، وتنظيم المعلومات القائم على الاختصار والإيجاز: “ثم إنني أنوي أن أطلق الإسهاب وأن أعانق الإيجاز ما استطعت” .
خالد الطايش
http://www.tiznitnow.com/index.php/panorama/1940-%D8%A7%D9%84%D9%83%D8%AA%D8%A7%D8%A8%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B1%D8%AD%D9%84%D9%8A%D8%A9-%D8%B9%D9%86%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%84%D8%A7%D9%85%D8%A9-%D9%85%D8%AD%D9%85%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AE%D8%AA%D8%A7%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%88%D8%B3%D9%8A.html