قراءة في كتاب : السيرة الذاتية للعلامة رضا الله محمد المختار السوسي
بقلم الدكتور المهدي السعيدي
صدر مؤخرا عن مطبعة المعارف الجديدة بالرباط كتاب” السيرة الذاتية للعلامة رضا الله محمد المختار السوسي، مجريات أطوار حياته” جمع وتقديم الأستاذ رضا الله عبد الوافي بن المختار السوسي، في 374 صفحة من القطع المتوسط بتقديم الدكتور عبد الهادي التازي عضو أكاديمية المملكة المغربية.
ويتناول الكتاب سيرة العلامة السوسي من خلال نصوص كثيرة مثناترة في كتاباته الكثيرة المطبوعة والمخطوطة، وقد عمل نجله بدأب وصبر على مدى عقود على جمع ما تحصل لدى الأسرة من تراث والده فتتبعه بالجمع والترتيب والإحصاء، وكان ثمرة ذلك صدور دليل شامل لمؤلفات محمد المختار السوسي في عدة طبعات، وهذا ما أهل الأستاذ عبد الوافي لمعرفةمؤلفات والده ومحتوياتها خاصة ما تعلق منها بشخصيته وحياته.
ولذلك عمل بشغف على جمع هذا التراث الضخم والتعريف بوالده سواء بنشر ما أمكنه من كتب أو بعرض الوثائق والنصوص والصور في المعارض والمجلات والصحف.. ولاشك أن هذا الكتاب المحتوي على مئات النصوص المبثوثة في الكتب الكثيرة والمراسلات والمخطوطات تبرز مقدار الجهد الذي بذله الابن البار في التعرف على والده ثم التعريف به انطلاقا مما كتبه هو عن نفسه.
والحق أن العلامة السوسي كان قد سئل مرة – كما ذكر في بعض مؤلفاته – عن ترجمته وأنه ترجم لآلاف الأعلام ولكنه لم يكتب عن نفسه ما يشفي ويكفي فأجاب رحمه الله أن ترجمته موجودة في أعماله كلها، فهو وإن كتب عن الآخرين إلا أنه في الحقيقة كان يكتب عن نفسه، ولهذه الإشارة الذكية جانبان، أولهما فكري نظري وأساسه أن التراجم والنصوص التي حررها السوسي في كتبه الكثيرة تدل عليه وعلى علمه وفكره وتبين فكرته في الحياة وعقيدته وتصوره لمسار الإنسان وكيف ينبغي أن يكون وللمجتمع وأسسه وللأمة وعلاقاتها.. أما الجانب الثاني، وهو واقعي شخصي وأصله أن السوسي عندما يترجم للأعلام – وكثير منهم تربطه بهم علاقات صداقة أو قرابة أو تعارف- يشير إلى وقائع من حياته وما جمعهم به من وقائع وأحداث، فخلال كتابه المعسول – بأجزائه العشرين – يورد مثلا تاريخ زواجه، ويشير إلى بداية استقراره بفاس أو الرباط أو مراكش، ويبرز اشتغاله بالتدريس والوعظ، وينص على علاقاته بإخوته وأعمامه وأبنائهم وأخواله..إلى غير ذلك.. وقد اعتمد أغلب الباحثين الذين ترجموا للسوسي على النصوص البارزة التي يذكر فيها ترجمته مثل ما ورد في كتاب الإلغيات دون أن يتتبعوا الإشارات الكثيرة المبثوثة في بقية الكتب وهي كثيرة جدا.. مما جعل كتابتهم عنه مختصرة وقاصرة.
ولاشك أن عمل الأستاذ عبد الوافي يأتي ليسد هذه الثغرة في ترجمة هذا العلم المغربي الكبير الذي يعد في عصرنا نموذج العالم المسلم الملتزم بعقيدته والمؤمن بوطنيته والمعتز بتراثه، فكان بذلك رائدا فريدا في عصره، يقدره حق قدره من عرفه في حياته ومن تعرف عليه من خلال مؤلفاته، ومن استمع خلال هذا أو ذاك إلى صوت الحدب والعطف الأبوي أو الأخوي الرقيق من كلامه، لذلك نرى كثيرين ممن عرفوه في حياته يذكرون هذه الخصلة الفريدة من خصاله، يقول الأستاذ عبد الهادي التازي في تقديمه الكتاب:
“وقد كان في صدر ما زادني إيمانا بانفتاحه على محيطه ومواكبته لعصره هذه المذكرات التي كان يتحدث فيها بقلب مفتوح لكي يصل إلى الآخرين، وقد برهن في كتاباته تلك على أنه كاتب قدير يستطيع تطويع القلم لما يريد أن يبلغه لزملائه وأصدقائه …استمعوا إليه وهو يصف التقاءه بأحبائه ومريديه بعد الإفراج عنه، وكيف يصور للقراء أن فرحة القلب لا تعدلها فرحة، وأن نسبة تلك الفرحة من فرحة الحواس الظاهرة، العين والأذن والسمع واللمس، تفوق كل ضروب الفرح.” (ص:8)
إن ما يتميز به العلامة السوسي خلال حديثه عن نفسه – وما أكثره في كتبه التي خصصها للمذكرات والرسائل والرحلات– هو قدرته الفائقة على التعبير عن نفسيته، وتحليل مشاعره ثم بعد ذلك كله البوح والاعتراف، فالعلامة السوسي رجل يعرف نفسه ويدرك مواطن قوته وضعفه، وحينما يتعرض لموقف ثبات أو وضع ارتباك لا يسكت عن الأول ولا يستنكف عن الثاني، وإن كان حديثه عن نفسه محاطا دائما بالتواضع الأصيل والبعد عن الفخر والعجب، وهو ما غر بعض الباحثين فعدوا تواضعه اعترافا بقلة بضاعته وضعف قدراته، فلم ينصفوه ولم يبوئوه المكانة التي يستحقها.
إن هذه السمات التي ذكرناها من القدرة على التعبير عن النفس بدقة وسلاسة عند العلامة السوسي سببها ما تميز به من قوة الشخصية ونفاذ العزيمة وعمق الإيمان، ولا أدل على ذلك أنه جعل مبدأه في الحياة أن لا يفعل في السر ما لا يستطيع أن يدافع عنه في العلانية…بل إن قدرته على إعلان مواقفه هذه تجاوزت مجال العواطف والمشاعر والأحداث الشخصية لتصبح منهجه في الكتابة والتأريخ العام، وتحفل كتبه بمواقف صريحة كثيرة مستندة إلى منهج تاريخي صارم وإلى أدلة وبراهين دامغة، يعلن العلامة السوسي ذلك كله وينشره في كتبه غير عابئ بعد ذلك بالمحتجين والمستنكرين والمطالبين بمراجعة كتبه وإسقاط ما لم يعجبهم منها.
وفي هذا السياق يأتي هذا الكتاب الذي يتحفنا به الأستاذ عبد الوافي ليزيدنا قربا من العلامة السوسي ويمكن الأجيال اللاحقة من التعرف عليه في حياته ويروي ظمأ الفضوليين منهم من الذين سمعوا كثيرا بالعلامة السوسي وقرءوا عنه في المجلات والصحف والتراجم المختصرة، ومن الذين درسوه بعمق من خلال كتبه المطبوعة واشرأبت أعناقهم لمطالعة ما تبقى من مخطوطات بحوزة أسرته، فلهؤلاء وأولئك يخرج هذا المؤلف المستل من 33 جزءا مطبوعا من كتبه و15 مخطوطا و14 وثيقة ما بين مرقونة ومخطوطة، والمصنف في 11 مبحثا خصص كل واحد منها لمرحلة معينة من حياة العلامة السوسي، فمن مولده ومسقط رأسه وذكريات طفولته إلى بداية رحلته العلمية في سوس، ثم دراسته العلوم العربية خارج سوس، فحصيلة دراسته وإجازاته، ثم استقراره بمراكش للتعليم، فمرحلة المنفى الأول بمسقط رأسه دوكادير إيلغ يليها الرجوع إلى الحمراء ثم الهجرة منها إلى الدار البيضاء، ففترة النفي الثانية ثم الرجوع إلى البيضاء وأخيرا الاستقرار بالرباط في الوظيفة الوزارية بالأوقاف ثم بمجلس التاج لتنتهي بحادثة السيارة والوفاة وما تلاها من جنازة وتأبين على مختلف المستويات.
وقد عزز هذا الكتاب بوثائق كثيرة منسوخة أو مصورة تعضد ما ذكر في النصوص المختارة من أحداث و أخبار تدور كلها حول العلامة المختار وتبرزه كما هو في حياته رجلا بسيطا يجول في الأسواق وهو وزير يماسك بائعي الخضر واللحم والبيض، أو مجاهدا قويا ثابت الجنان في مواجهة الفرنسيين وأذنابهم في مراكش أو تافراوت أو منافي تافيلالت.
ولاشك أن هذاالكتاب مع ما فيه من مادة مفيدة وأخبار طريفة وأحداث عجيبة إلا أنه لم يحط ببعض الجوانب التي ما زالت خفية لا يعرفها الكثيرون من شخصية العلامة السوسي، وإنما يعرفها من خالطه ورافقه من طلبته وأصدقائه الذين ما زالوا على قيد الحياة، وهذه الأخبار وإن لم تكن على شرط الكتاب – بكونها من السيرة الغيرية- إلا أنها في غاية الأهمية لمعرفة مواقف العلامة السوسي الوطنية والسياسية خاصة عندما تولى مسؤولية الوزارة، ولعلها تجمع في القريب وتنشر لتكتمل الصورة.
وأخيرا فإن هذا الكتاب حلقة من سلسلة أعمال أبناء العلامة السوسي الكرام لطبع تراث والدهم وتمكين المغاربة من الاستفادة منه، منذ قاموا بالخطوات الأولى للطبع والنشر في أواسط العقد التاسع من القرن الماضي إلى يومنا هذا بل هم مستمرون في أعمالهم مبشرين بطبعة جديدة لكتاب الترياق المداوي وبنشرة أولى لكتاب مشيخة الإلغيين من الحواضر، وسعي جاد لإعادة طبع كتاب خلال جزولة ومعتقل الصحراء بجزأيه ومنية المتطلعين.. لذلك لا يسعنا إلا أن نقول مع العلامة المؤرخ الأستاذ عبد الهادي التازي في تقديمه الكتاب مخاطبا جامعه ومقتبس مواده الأستاذ عبد الوافي ومن خلاله إخوانه:
” ومن واجبنا جميعا أن نشد على يديك، بل أن نطالبك في الاستمرار في أبحاثك وتنقيباتك لمساعدتنا على فهم أكثر لمفاتيح شخصية هذا الرجل الجليل القدر، المبجل الهمام... هنيئا لك بهذه المبادرة، والله وحده يتولى جزاءك على ما قدمت لأهلك وذويك وكلنا أهلك وذووك ولا فض فوك.” (ص: 9)
[fgallery id=3 w=485 h=380 bg=ff00ff t=0]
نقلا عن مدونة خبب اليراع للدكتور المهدي السعيدي
http://esaidi.blogspot.com/2009/08/blog-post.html