مات “محمد المختار السوسي” كما يموت باقي البشر، ذهب إلى غير رجعة ولو أن السبب كان حادثة سير مميتة. فلهجت الألسن بالاسترجاع و”لا حول ولا قوة إلا بالله”، وتواترت الروايات، ورفعت الأكف بالضراعة لله عز وجل أن يرحم عزيز قوم كرس حياته لخدمة مشروع فكري وطني عز نظيره.
مات “المختار السوسي” فارتجت أرجاء سوس لهول الفاجعة التي حلت بابن بار خط يراعه الكثير عن هذا القطر، وعن رجالاته المغمورين في الساحة الفكرية والعلمية وقتذاك مقارنة مع من تخرج بمدينة فاس، فكان لكتاب “سوس العالمة” وقعا في الآذان، ونبراسا ينير دجى المداشر والقرى التي زخرت بأسر عريقة خلدت اسمها في تاريخ العلم بالمنطقة، حتى قيل: “لولا المختار السوسي ما ذكرت سوس”.
ولقد شاءت الأقدار أن يكون “المختار” حيا بيننا في مكانة رفيعة استمدها من عائلته الإلغية العريقة، والبعد الروحي للشيخ “العربي الأدوزي”، والد أمه “رقية بنت محمد”. وساعده في تكريس هذه المكانة إفصاحه عن مكنونه يوم استقر به المقام بمدينة فاس يطلب علما في وجه المحتل الفرنسي، ثم ما ناله من المناصب بمغرب ما بعد الاستقلال.
لكن اليوم صار “محمد المختار السوسي” اسما لا يذكر بيننا إلا لماما كأنه لم يقل ذات مرة: “فهذه سوس وجدت من هذا السوسي من يبذل جهوده حول إحياء تاريخ بعض رجالاتها..”. ولم يكن اسمه قط مبتوتا في المناهج التعليمية يدرس بحق على غرار الرجال العظماء الذين دخلوا تاريخ بلدانهم في أوسع الأبواب، ليعرف النشء قيمة هذا الرجل، ويحاولوا السير على نهجه ما استطاعوا لذلك سبيلا. سيما وأن الرجل ترعرع بين أحضان “إلغ” كجزء لا يتجزأ من المغرب “غير النافع”.
ها هي الذكرى الواحدة والخمسون لوفاة “محمد المختار” تلوح في الأفق، وها هم أبناء سوس يحاولون بين الفينة والأخرى التكفير عن ذنب إهمال ذكرى قامة حفظت حق الانتماء والهوية، وحملت على عاتقها مهام النبش في أغوار هذه الأرض، بندوة هنا وهنالك، أو عرض أو تظاهرة محتشمة، وتفاخر بالاسم حين يشتد السجال والنقاش. لكن الذنب لن يمحى ما دامت جل كتب الرجل لم تخرج للوجود في رونق يليق باسمه، وتكثف هيئات المجتمع المدني أنشطتها انكبابا على تراث بذل “المختار” حياته لجمعه وتنقيحه وتدوينه، حتى لا تتألم روحه للإهمال الذي طال هذه التركة النفيسة.
فمن العار والعيب أن تكون بين أظهرنا -أهل سوس- مثل هذه القامات الفكرية ولم نستطع أداء ولو جزء يسير من حقها علينا، لأن الأمر لا محالة يضرب في عمق مصداقيتنا مع ذواتنا ووفائنا لأرواح من قدموا الغالي والنفيس لأجلنا.
المرحوم المختار السوسي
http://hibazoom.com/un-homme-debout.html
****************
دفاعا عن الفقهاء في الذكرى الخمسين لوفاة زعيمهم
احمد اضصالح
15 نونبر 1963م، قبل خمسين عاما من الآن رحل عنا المجاهد العظيم والمؤرخ الكبير والعالم النحرير في الأدب والفقه والشعر..، رحل عنا رجل لا كالرجال، إنه ابن سوس العالمة الذي حفظ خيرها وبركتها حتى كتب عنها وألف فقيل بعد ذلك: “لولا المختار السوسي ما عرفت سوس”. نعم لولاه ما عرفت، ولما احتلت مكانتها العلمية اللائقة بين باقي المناطق المغربية شمالا وجنوبا اليوم.
رحل الأمازيغي الأصيل، ابن جبال الأطلس الصغير وفي كتبه ما لا يعد ولا يحصى من الذخائر والنفائس، أرخ لسوس أيما تأريخ حتى بدت للعالمين عروسا جميلة تزف لبيتها يوم عيد، إنه الرجل الذي حمل على عاتقه مهمة التربية والنضال في عهد الاحتلال، وبعد ذلك سهر كمسؤول يقدر معنى المسؤولية على بناء دولة ما بعد الاستقلال.
رحمك الله يا محمد، يا فارس سوس، لقد قصرنا اتجاه قدرك فلم نوفك حقك في الاحتفالات، والمناهج الدراسية الضخمة، ولم نسر على نهجك الذي سطرته بنفسك نهجا فريدا تحملت أعباءه الثقيلة حتى آخر رمق. ظلمناك يا محمد في الذكرى الخمسين لوفاتك.
ها هي الأحداث تثرى بعد مرور كل هذه المدة الزمنية وتلامذتك ومريدوك ما زالوا يتعرضون لشيء من الضيق والحرج، ضيق صنعناه بأيدينا. فبالرغم من التأليف الذي استهدف الأسر العلمية في سوس ورجالات العلم فيها ودورها الكبير في الحياة العامة للناس ، يبقى التنكيت وتكرار المستملحات عن “الفقهاء” أو “الطلبة” أمرا معهودا في المجالس، وفيها ما يكفي لاحتقار أناس جندوا حياتهم خدمة لهم حتى لا يتخبطوا في ظلمات الجهل والأمية. لذلك لا ضير إن وجدنا مقالات صحفية اليوم ومواد إعلامية تنحو نفس هذا المنحى حتى إن البعض شن حملة شديدة اللهجة على من سماهم رجالات الدين بالمعنى الكهنوتي الكنسي متهما إياهم باغتصاب الأطفال. اتهام جماعي لحملة العلم السوسيين في ذكرى وفاة زعيمهم الكبير محمد المختار السوسي المنافح الأول عن كرامتهم.
عذرا يا محمد، فلست بيننا اليوم حتى تكتب كم كان هذا الزمان قاس عليكم، وكم كانت لحومكم مسمومة لمن يبتغي النهش فيها، أنت نبراسنا في شعب هذه الجبال، قبس مضيء يهتدي به السائر في دجى الليالي، لذلك نم قرير العين، فيكفيك شرفا وفخرا أنك أديت ما عليك في حق سوس العالمة رغم تنكر ابنائها له.
http://www.hibapress.com/details-12348.html