العلامة المختار السوسي يكتب عن اللقاء الأول مع شيوخه الحضريين

Home / المقالات / العلامة المختار السوسي يكتب عن اللقاء الأول مع شيوخه الحضريين
العلامة المختار السوسي يكتب عن اللقاء الأول مع شيوخه الحضريين

العلامة المختار السوسي يكتب عن اللقاء الأول مع شيوخه الحضريين

رضى الله عبد الوافي المختار السوسي

التجديد : 08 – 10 – 2005

 

ها نحن نعود مرة أخرى إلى تصفح صفحات مخطوط والدنا مشيخة الإلغيين من الحضريين، هذا المؤلف الذي كان أصلا فصلا من فصول الكتاب الموسوعي الشامل المعسول، حيث إن القسم الثالث منه قد اختص بشيوخ الإلغيين في التصوف وأساتذتهم في العلوم، وبينهم بعض كبار أساتذتهم في القرآن، وتراجم هؤلاء كلهم احتوت من الجزء الرابع إلى الثامن، أي خمسة أجزاء من أجزاء الموسوعة، وكما قلنا، فقد كان تحرير كتاب مشيخة الإلغيين ضمن الفصل الثالث المذكور، إلا أن مؤلفه رحمه الله عندما أراد طبع كتابه المعسول ارتأى أن يُبقي على هؤلاء المذكورين في تراجم المشيخة على حدة، ليكونوا مجتمعين في كتاب منفرد أراد به أن يجمع فيه شيوخه وأساتذته الحضريين، وأن يكون وفيا لهم لما أسدوه له من معروف، وذلك حسب ما نقرأ في آخر الكتاب عند ترجمته للنقيب ابن زيدان حيث يقول: >إنني كثيرا ما أجلس وأفكر في أشياخي، فأبتدئ أعدهم واحدا واحدا، وأمثل أشخاصهم النيرة، وأقدم لهم تشكرات تنبعث من أعماق قلبي، حتى أصل اللذين أجازوني.. عليك أيها الأستاذ سلام وسلام، فإنني على تلك العهود، أومثلي من يخيس بالعهود، فلئن طال بنا جميعا العمر، فسنقرأ معا هذا الذي أكتبه الآن،

كأنما أنا مسخر فيه لقوة روحانية تحركني كما تريد، وإن كانت لا قدر الله الأخرى، فليعلمن العالم أجمع، أن المختار خلقه الله من الوفاء، كما كان قلبه كله صفاء، فلا يزال يشيد بكل من أسدى إليه معروفا، كيفما كان الإسداء، ويسجل ذلك على نفسه وهو كما يقول العدول بأتمه<.

إن كل متتبع لكتابات والدنا عن شيوخه وأساتذته وأصدقائه وأحبائه ليستشف من تراجمهم أن كاتبها دائما ما يعلن وفاءه لهم وحرصه على ذكر محاسنهم ويرعى أخوتهم ويحفظ مودتهم، وفي هذا الإطار فسنبين في حلقة اليوم كيف كان اللقاء الأول بين والدنا وبين بعض شيوخه الحضريين منهم خاصة، في كل من مراكش وفاس والرباط، وكيف هو حرصه على تدوين هذه الرؤية الأولى لأساتذته، وننقل كل ما نذكره هنا من المخطوط الذي ذكرناه مشيخة الإلغيين من الحضريين ونختتم كلمتنا بما ختم به هذا الكتاب حيث نقرأ في آخر صفحة منه:

“الحمد لله الذي وفقنا حتى أتممنا هذا الفصل مع طوله، وسدد خطانا وأخذ بأيدينا، وأعاننا حق الإعانة، حتى أتى وفق ما في مقدورنا، من جهود يستطيعها غريب منكود منكوب، قد حيل بينه وبين أن يرى مطلق بشر، كأنه مذنب حقا، ولكن الله مطلع على ما هنالك، فالحمد لله الذي جعل في طي هذه النقمة نعما منها الاشتغال بهذا الكتاب >الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنتهدي لولا أن هدانا الله”) محمد المختار لطف الله به.

خص العلامة محمد المختار السوسي مخطوط مشيخة الإلغيين من الحضريين لترجمة شيوخه وأساتذته الحضريين في كل من مراكش وفاس والرباط، ننقل منه هنا ما وصف به المؤلف اللقاء الأول التي حصل بينه وبين بعض شيوخه الحضريين.

 

شيخ الإسلام شعيب الدكالي

… في عشية يوم بعد أن صليت المغرب نحو شهر ربيع الثاني 1342ه، قال لي صاحبي سيدي الحسن الساحلي رحمه الله: إن الشيخ شعيبا الدكالي الشهير، قد حضر اليوم في موكب السلطان مولانا يوسف، وقد افتتح الآن في مسجد المواسين درس البخاري، فهل لك أن نحضر عنده لنشاهده ونعرف كيف قراءته التي تذكر عند الناس بتعجب؟ فقلت له وأنا أقوم: هيا بنا إليه، ثم قلت له ونحن في الطريق: إن سيدي سعيد التناني كان يحكي لي وأنا لا أزال في بلادنا أنه رآه، فرأى منه فصاحة نادرة وعلما جما، واستحضارا غريبا، ثم ولجنا المسجد من بابه الغربي، فتلقتنا رنة صوت متموج هزاز لأفئدة السامعين، فكان ذلك خير ترحيب بالإبن المقبل الذي سينضوي تحت حضن والده الشيخ شعيب، ثم ينزح في أبناء علمه البررة، ثم لم نمش بعد دخولنا من الباب إلا قليلا، حتى وصلنا أطراف الجالسي.نفأخطأنا عمدا، فصرنا نتخطى الرقاب، حتى استدرنا من ناحية الباب الجنوبي، فأبصرنا الشيخ على المنبر في أثناء القوس المتوسط من الصف الأخير من الصفوف الأولى التي في قبلة ساحة المسجد ووجهه إلى القبلة، وقد اكتظت كل الصفوف أمامه إلى جدار المحراب إلى الباب الجنوبي والباب الشمالي، علاوة على الذين

جلسوا في وسط صحن المسجد، فجلسنا هنالك حيث الباب الجنوبي، وبيننا وبين الأستاذ ما لو كان بيننا وبين غيره من الأساتذة لما سمعنا ما يقول، ولا أدركنا من تقريراته شيئا، ولكن صوت الشيخ شعيب الرنان الصيت كان يغمر المسجد على سعته، بل يتجاوز ذلك إلى الأزقة والدروب التي تحاذي المسجد، فكثيرا ما تقف النساء في درب الحمام، وأصحاب العربات في الزقاق عن جنوب المسجد يستمعون فيدركون ما يقول الشيخ، وهو في وسط الجامع.

كان أول ما طرق أذني في تلك الساعة، أنني سمعته يقرر في حديث الهدي حين ساق البدنة المشعرة سائق، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: اركبها، فقال إنها هدي، فكرر عليه، فقال له ثالثا: اركبها ويحك، فأفاض الشيخ في ذلك الحديث، وهو يتدفق ويطفح حججا، فكان مما قال: إن الهدي عند المالكية منهي عن ركوبه، وهذا الحديث وارد عليهم، وقد مال إليه فخر المالكية ابن العربي المعافري فقال: إن ركوبه وإن كرهه مالك فلسنا له بممالك، ونقول به متبعين محمدا ابن عبد الله، وإن لم يقل به أبو عبد الله (يقصد مالك)، كل ذلك بعبارة عربية مبينة حلوة، تسيل من فيه سيلانا مطردا بلا تكلف، فأخذت والله علي قلبي حتى أحسست إذ ذاك بأنني أقع على كنز ثمين لم أقع له على نظير في كل ما مضى من حياتي، ثم لما استرسل في الدرس، وهو يخب ويضع، وينص بتقرير يموج موج البحر الخضم، وصل لفظة شهد، فقال إن هذه الكلمة تأتي في لسان العرب بمعنى حضر، قال الله تعالى: (فمن شهد منكم الشهر فليصمه)، وبمعنى أقر، ومنه قول المؤذن: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله، يقول ذلك والمؤذن يؤذن للعشاء، فكانت خير مصادفة، ومر هكذا في الدرس، فما شئت من لغويات

ومن نحويات وبيانات وأصوليات وفقهيات وتواريخ وآداب، وتراجم الرجال المذكورين في الدرس، وهو يتلو من الألفية والمتون الصغرى النحوية، ومن المختصر والتحفة والزقاقية، ومن التلخيص، ومن جمع جوامع، ومن أشعار العرب ما يحتاج إليه للاستشهاد، فقلت: أهذا هو الشيخ شعيب الذي نسمع بذكره؟ وهل هذا هو الذي يحمل عارفيه حتى يجمعوا على أنه فريد العصر، ومفخرة الدهر، ويتيمة العقد، والضالة المنشودة؟ ثم استمر الدرس أكثر من ساعة، ولم يقم المختار منه حتى وضع الشيخ شعيب في صدره بيده المباركة بذرة صالحة تعهَّدها بعد ذلك بالسقي حتى آتت أكلها.

تلك العشية هي الوقت الذي حد ما بين المختارين، ذلك المختار الوضيع القنوع المتزمت المزَّمِّل في شملة الخمول، المكتفي بترديد بعض أدبيات جافة مُملة باردة، ملأ بها وقته، وأفنى فيها سنوات، يرددها كما يردد الجائع نواة في شدقيه، يتبلغ بما يرتشفه منها، وما يرتشف منها إلا ما يزيده سغبا على سغب لو كان ممن يعلمون، وبين المختار الذي يرفع رأسه ويتطلب أن يلم بكل علم، ويقبل بنهم زائد، وإمعان في خوض المعارف، لعله يكون له من بين حملته نصيب.

العلامة مولاي أحمد البلغيثي

دخلت مرة الصويرة بعد الأربعين، فصادفت فيها رفيقي الأستاذ الشيخ المكي الناصري، فأمضينا خير عشية، وكان مما حظينا به فيها أننا زرنا مولاي أحمد البلغيثي، الذي يوجد إذ ذاك هناك زائرا، فقدمنا له هذه الأبيات مستأذنين:

يمينا بأجفان فواتر من دُعج

ولُعْسِ شفاه ياسمات على الفُلْجِ

ومصفوفة الطُّرَّاتِ يسود ليلها

على جبهات واضحات السنا بُلْجِ

لقد عطشت إلى لقائك أنفس

ترى بك هديا مستقيما على النهج

بحق الخدود المذهبات تحوطها

سوالف سود للغرام بها تزجي

أدر لفتة من لحظ عينك نحونا

فنحن على شوق تدفق كالموج

عليك سلام الله ما أسهر الهوى

أخا وله من هجر أَغْيَدَ ذي غُنْجِ

كتبناها ونحن على سيف البحر على هذا النمط الذي نعرف أنه يعجب طبقة الأستاذ، فلما قرأها استطير أريحية بها، فصار يعيدها مرات، ثم لما علم أنني من تلاميذ الأستاذ الطاهر الإفراني قال: إن هذه الزهرة الفذة من ذلك الروض الأريض، فهذا هو مفتاح التعرف بيني وبينه.

الشيخ سيدي محمد بن الحبيب الدرقاوي

…وقد كنت مررت بفاس سنة 1339 ه إلى زاوية بوبريح في قبيلة بني زروال مع مولاي الهادي الجبلي رحمه الله، والتاجر سيدي عبد العزيز الشرائبي، وسيدي بلقاسم الدباغ، فإذ ذاك تعشى معنا عند إنسان، ثم دارت الحلقة، فتولى المترجم ذكره الله بالخيرات رياستها، فكان ذلك أول ما رأيته، فعرف أنني ابن الشيخ الدرقاوي سيدي الحاج علي المشهور، فسرعان ما تعانقت القلوب.

نزلت في المدرسة البوعنانية أول سنة 1343 ه، فكان هو الذي فتش عني واستدعاني، فوصل الأسلاك من جديد، ثم صار يتعهدها دائما بفضل منه، فكان قلما يغب زيارة بيتي، فلا نشعر به حتى يكون في وسطه، فكان له دائما الصدارة عندنا كلما قدم، ولمجاورته للمدرسة كان الطلبة يأخذون عنه، فكنت أحدهم، فكان يهتبل بي من بينهم كثيرا، فأكون أنا دائما السارد.

…ومن عادته أنه يقدمني دائما إلى العلماء الذين لا أعرفهم ولا يعرفونني بمناسبات، فبسببه تعرفت بالأستاذ سيدي الفاطمي الشرادي، العلامة السني الكبير، وبسيدي عبد الكريم بنيس، التيجاني الشهير، فقد حضرت عنده في داره معهما، كما حضرت أيضا في دارهما معه، والعجيب منه أنه يعرف كيف يماشي كل إنسان، فبنيس من المتوغلين في التيجانية، وسيدي الفاطمي إذ ذاك قد نفض يده من التيجانية، وصار يؤلف تأليفا ضد أمثالها، وأنا إذ ذاك متوغل في مبدئي الجديد، الذي أدرك فيه التوسط، فكان دائما يجتمع مع الجميع، ويقدر أن يتصل دائما بسعة صدره بجليسه.

العلامة مولاي أحمد العلمي

…أول ما عرفته أنني كنت جلست إليه يوما وهو يدرس في جمع الجوامع أمام الخزانة بالجامع اليوسفي في الزوال، فاستطبت عبارته، وما يتدفق به أثناء الدرس من النكت المضحكة حين يصور مسألة، فكان ذلك سبب أن ارتبطت بدرسه، فاستأنست به، فكان أخونا سيدي محمد الكيكي هو السارد، فلا تسأل عما يسمعه من الأستاذ من التنكيت عليه كلما زلت عبارته، ونحن نضحك من كلام الأستاذ بلهجته الفاسية، فكنت لا أنقطع عن درسه، مع ملازمتي للسكوت، فما جرت قط كلمة من فمي في مجلسه، خوف أن ينكت علي كما ينكت على السارد، وعلى كل من يألف مساءلته، وتظهر أريحيته اللطيفة دائما في الدرس، حتى لنرى وجهه كأنه شقة قمر، وقد تنبه إلى ملازمتي للسكوت، فقال لبعضهم حين برزت إلى الميدان تدريسا بعد ذلك بزمن: إنني لأعجب من فلان أين وجد هذا العلم، فقد لازمني ما لازمني وهو لا ينبس ببنت شفة، وكنت أحسبه لا يفهم، وأنه بليد لا يأتي منه شيء، ولو كان يعرف السبب لانتفى العجب.

سيدي محمد بن العربي العلوي الفلالي

…دخلت فاسا في اليوم الثالث من المحرم 1343ه أو اليوم الرابع، فنظمت أولا دروسي، وبعد أسابيع هدتني الصدف إلى مجلس هذا الأستاذ العظيم، فأخذتني أولا فصاحته وصراحته وتضلعه بالعربية والآداب، فلازمته ملازمة الظل للشخص، فبعد نحو شهر، سأل عني الأستاذ بعض الناس، فأخبره بأنني سوسي، ثم أدرك أنني أنتمي لأسرة مجيدة، فكانه أعجبه مني تقدمي في الأدب والعربية، وأنني لست ككثير من الآفاقيين سكان المدارس، فلا أدري بأي سبب كنت أتكلم معه يوما بعد قيامنا من درس، فقال لي إنني عرفت من أنت، فالآن اصخ إليّ، فإنني كنت وفدت على فاس في سنك، فاستفد من تجربتي، أوصيك ألا تتسلف أبدا من فاسي، ولا تتركه يدرك أنك محتاج، فإن ذلك يسقطك من عينه، وهأنذا فكل ما تحتاج إليه من الدراهم فخذه من عندي حتى تصلك الدراهم من عند أهلك، وكذلك الكتب، فهذه خزانتي مفتوحة أمامك، فخذ واقرأ ما قدرت عليه، هذا ما رحب به الأستاذ بتلميذه الغريب، فلا تسل عن مقدار تأثير ذلك في عواطفي، فكانت كيسه متسلفي دائما أربع سنوات فلم أذكر أنني كشفت لفاسي عن احتياجي، وكذلك كانت خزانته مورد كل الكتب التي بها أدركت ما أدركت.

القاضي سيدي محمد بن الحسْن المراكشي

…دخلت مراكش سنة 1338 ه غريبا، فآويت إلى المدرسة اليوسفية، مأوى الطلبة الغرباء، فصادفت هنالك بعض الطلبة من التنانيين يعرف أهلي، فهو الذي كان السبب حتى اتصلت بدروس هذا القاضي في التلخيص، وكان يدرسها بعد العصر في مسجد أزبزض، وقد وصلوا فيها الباب الثالث، فصرت أتردد إلى الدرس، فسرعان ما اتصلت الأسلاك بيني وبين الأستاذ بسبب أنه كان عرف والدي في بعض زياراته لمراكش، وقد كانت له في الصوفية نية حسنة، وللأدب الذي يزاوله أيضا، وكنت أنا من المتطلعين إليه، يد أخرى في تقريب الشقة في ما بيننا، ولم أنشب أن كنت عنده كولده، وكانت داره مثابة لي، وكان رحمه الله كريم المائدة، باسط الكف، سليم الصدر إلى غاية بعيدة، وقد وجدناه إذ ذاك كما أعفي من وظيفة الكتابة في الأحباس الكبرى، فأصابته فاقة، فكان أثمان بعض كتبه موردا للنفقة على عياله، وما كان يعرف في النفقة إلا التوسع التام، فلولا ضيعة له يعتمد على بعض ما تمده به لتوقف.

سيدي المدني بن الحسني الرباطي

…..نزلت الرباط مفتتح 1347 ه في صحبة شقيقي سيدي إبراهيم، فوجدنا الأستاذ يدرس التلخيص والمختصر والزقاقية، فانخرطنا في ثلة من الطلبة لا تبلغ خمسة عشر، بين رباطيين وسلويين ومراكشيين،يحضر في دروسه بالجامع الكبير، ثم اقترحنا عليه أن يفتتح بلوغ المرام، فكنا نبكر عليه قبل المختصر، ففي ذلك الكتاب رأيت مارأيت من إتقان الأستاذ، فإنه يتناول الحديث من كل جهة، منطوقا ومفهوما على المنهج الأصولي، فيأتي بدروس قيمة، ويعرض المذاهب وحجج كل، وذلك بعدما يتكلم على الحديث من جهة الاصطلاح، فكان يستوعب تلخيص الحبير للحافظ، فيملي ما هنالك ويزيد عليه، فيكون منتهى ما يقرر حديثا أو حديثين، حتى خفنا أن يطول بنا الأمر، فأشرنا على الأستاذ بالاختصار، فكفكف من غلوائه، ولكنه يظهر أثناء إملاءاته في الموضوع، وهو يحاول أن لا يتجاوز مقترحنا، كأنه فرس يشاهد الميدان الفسيح أمامه، فجمع قوته ليستخرج ما عنده من الجري، لولا أن حَكمة اللجام تكفكف من غلوائه رغم أنفه، فتراه يشب حينا بقدميه، وحينا يقفز قفزات صغيرة، وهو مطرق الرأس يتمايل على جانبي الطريق مما يعانيه حين يحال بينه وبين منيته.

إن أردت أن أعلن الحقيقة وأشيد بها في التاريخ، فإنه يجب علي أن أعلن أن بلوغ المرام بدراسة الأستاذ، هو الفاتح لي عن الكيفية المختارة في دراسة الحديث، ففيه تعلمنا كيف ننظم تفهم الحديث.

العلامة سيدي السائح الرباطي

…..في مساء يوم وقد مر علي عصر قليل بعدما ثويت بالرباط، قال لي إخواني من الطلبة: إننا في هذه العشية سنزور الأستاذ السائح، فقلت لهم: ومن هو هذا الأستاذ؟ فقالوا: أستاذ من أعلى طبقته هنا في الرباط، هو منخرط في أعضاء مجلس الاستيناف، عالي المنزع، محلق التفكير، متسع المجال، ننتابه أحيانا، فنسمر عنده ما شاء الله في البحوث العلمية، فنعتاض بذلك ما نحرمه من دروسه.

قدموني إليه وعرفوه أنني طالب جديد من سوس، وردت على الرباط في سبيل العلم، فهش وبش، ثم دارت رحى الأبحاث، فأبصرت منه بدوري فكرا نافذا ثاقبا، صوالا بالقواعد الأصولية، سبوحا في أمواج الفلسفة، لبق التفريع إلى كل جانب ممكن، ثم يحسن جمع رؤوس المسائل، فكان من عيني من تلك الساعة عالما جديدا، أعده من بين العلماء الذين أعرف لهم التفوق، فقلت: ألم يكف الرباط إن كان فيها العلامة الحافظ الداعية الأستاذ سيدي المدني، حتى يكون فيها المفكر الأصولي النقادة سيدي السائح؟ ومتى كان لحواضر المغرب ومدنه عالم من الأنموذج العالي، حتى يكون في الرباط وحدها توأمان؟ بل يحشر إليها الأفذاذ من كل جهة، كالأستاذ الحجوي، ومفخرة تافيلالت سيدي محمد بن العربي، ومعجزة دكالة الشيخ شعيب، فلتهنئي يارباط الفتح بأفلاذ كبد المغرب، فلك مفاتيح هذا العلم، وبك ارتبط العباقرة من علماء المغرب، وأنت اليوم عاصمة، والعاصمة يجبى إليها ثمرات كل شيء، فهكذا كانت مراكش أيام الملثمين والموحدين والسعديين، وهكذا كانت فاس في عهد الأدارسة والمرينيين الأباة، وهكذا كانت مكناس صدر هذه الدولة الشريفة المنيفة، واليوم يوم الرباط، وذلك فضل الله يوتيه من

يشاء، وتلك الأيام نداولها بين الناس.

العلامة سيدي محمد الرافعي الجديدي

…… في أصيل يوم، والشمس مائلة إلى الغروب تلقي على بحر الجديدة وبطاح دكالة الفيحاء نظرات التوديع الهادئة، نزلت من سيارة أقلتني من الحمراءالتي ودعتني بلافح من هجير صيفها المتلظي، ثم تلقتني الجديدة، وقد تخللت بنا السيارة شوارعها الواسعة بنسيم عليل، يداعب أطراف أكمام جبتي، ويلاعب ذيول سلهامي، فسألت عن دار القاضي السائح، فدلني عليها دال فلم أجده فيها، فتركت نبإي عند البواب، فوجدت بعد أن صليت المغرب، عونا من أعوان القاضي في انتظاري، فصاحبني إلى دار الكريم السيد الأريحي مولاي أحمد الطاهري رحمه الله، وقد أبلغني أن القاضي في انتظاري هناك، فوجدت السفرة قد مدت، فكان أول ما سمعته وقد دخلت من الباب الخارجي، كلاما جهوريا صائلا مع تؤدة، وهو يقرر دليل المالكية والجمهور من الحديث في إيجابهم الإحرام على كل من يريد أن يدخل مكة غير متردد إليها، فسلمت سلاما خفيفا، فجلست حيث أجلسني رب المنزل الذي قابلني باحتفاء، فأقل المحدث على حديثه كصلصلة جرس متصلة، ثم بمناسبة انتقل إلى دليل المالكية والشافعية من الحديث أيضا في قولهم: ( إن تارك الصلاة يقتل حدا لا كفرا)، فأفاض في ذلك يسوق ظواهر أحاديث ونصوص أخرى

استشهادا، فأدركت أن المذاكرة تقدمت بين المحدث والأستاذ السائح في ذنيك الموضوعين قبل أن أدخل، فكأن الأستاذ قال: إن الدليل الناصع للمسألتين غير موجود، فتموج الرجل يجيبه ذلك الجواب، الذي أدركت بعضه، فكان لقوله العالي ولصوته الذي فيه من الجراهية كثير، أثر عظيم في نفسي، فقلت: ليت شعري من هذه الباقعة الجديد الذي أصادفه في الجديدة، ولم أكن زرتها قبل اليوم، ولكنني لو كنت لا أنسى لعرفت أنه لا يكون غير رجل واحد، ولكن النسيان سرعان ما يستولي على الإنسان.

أتم المحدث حديثه، والقاضي قلما يجاذبه إلا بمقدار، ومباحثته إلى مساءلته أقرب منها إلى مناقشته، ثم التفت إلي الرجل فقال: أهلا بك أيها الفقيه، ثم قال للقاضي: أترى الفقيه من أين؟ فقدمني له تقديما مشرفا فقال: حسنا أعرفه وأعرف أنه يدرس في السنة الماضية الموطأ في جامع التباع في مراكش، وأنه فتح زاوية والده للتعليم، وياما أحسن هذه الطريقة التي سلكها، وإن كان ذلك من مثله غير عجيب، لأنني أعرف من أخبار والده ما أعرف، وقد كنت حوالي 1330 ه في سوس، فسمعت من ترجمته ما سمعت، وهو إذ ذاك كما توفي، ثم التفت إلي فقال: في أي سنة توفي الوالد؟ فقلت: في سنة 1328ه، ثم استرسل في ذكر سوس وعلمائها، حتى ذكر منهم كثيرا ممن لم أعرف، فإذ ذاك تجرأت فالتفت إلى القاضي فسألته عن الرجل فقال: إنه الأستاذ الرافعي، فقلت وقد التفت إلى الأستاذ: في هذه الساعة نلت أمنية ما فوقها أمنية، حين تعرفت بذلك الذي ملأ قلبي ومسامعي، فتشوقت عيوني أن تحظى أيضا بدورها من رؤيته، فها هي الآن تفوز أمنيتها.

المؤرخ الكبير النقيب ابن زيدان

…أول من عرفني بالأستاذ معرفة خاصة، الأخ العلامة التطواني، فإنه ذكره لي مرارا، وقال: إنه فريد في أخلاقه التي طبع عليها، وليست بتطبع، وزاد علمه واطلاعه وكرمه تلك الأخلاق رونقا وبهجة، فكان آية للمغرب، ومعجزة مكناس التي تتحدى المدن الأخرى أن تأتي بمثلها، فأعلن لسان حالها الإعجاز التام، وبذلك عطشت إلى ملاقاته والتعرف به، لأنني لهج بالتعرف بعظماء العلماء، بشرط أن لا يتعاظموا بما علموا، وأن لا أجد منهم بابا موصدا، وإلا فإنني أزهد الناس منهم، وأندم الناس على بارقة تعارف إن كان سبق بيني وبينهم تعارف.

ترافقت مع الأخ الحاج محمد الناصري إلى نزل بالرباط، تبوأه الأستاذ ابن زيدان تلك الأيام، فسرعان ما زحزح الستار عن نفسية ابن زيدان الأريحية المتواضعة، فكانت الجلسة، وإن استولى على جوها لسان الناصري الجوال، كافية لإدراك ذلك الذي أدركته من ابن زيدان، فكنت به من المعجبين.