بحث لنيل الاجازة في الدراسات الاسلامية
إعداد الطالبة: الونجلي نعيمة
تحت إشراف الاستاد: علمي حمدان مشيش
جامعة سيدي محمد بن عبد الله
كلية الآداب والعلوم الانسانية _فاس_
السنة الجامعية: 1989_1988 / 1408_1409
الفصل الثالث
البحــث الأول: المختـــــــار السوســـــــي حياتـــــه وشخصيتــــــــــــــــــــــــــــه
البحث الثاني: أثر الظروف العامة في تكوين شخصية السوسي
البحث الثالث: جهاد السوسي ونضاله في المجالات الاصلاحية
**************************************
البحث الأول: المختار السوسي: حياته وشخصيته
في تاريخ العديد من الأمم والشعوب عباقرة أفذاذ وعلماء باحثون أمجاد، سجل جلائل أعمالهم في أنصح صفحاته بأحرف من نور، منهم من عرفت له الدنيا قدره، فتمتع بالشهرة الطائرة والصيت الذائع ونال ما هو جدير به من تكريم وتمجيد حيا وميتا ومنهم من عاش في الظل جنديا مجهولا، طمرت جهوده وتضحياته تحت ركام من التجاهل والتناسي والإهمال، ولعمري إن للشعب لعقوقا كعقوق بعض الأبناء. ومن أبشع أنواع ذلك العقوق أن تتناسى أبطالها العظام، ونبغائها الكبار وقادتها الأمجاد الذين أرسوا قواعد عزها وشادوا صرح مجدها.
ونحن بحمد الله – نعتـز ونفخـر بـأن الدنيـا كلها تعتـرف لوطننـا الحبيــب بـأنــه ظل -عبر العصور- منبت مواهب خارقة، وعبقريات نادرة كان لها اسهام كبير في ميادين مختلفة مما تعتز به الإنسانية.
غير أننا نلاحظ بحسرة دفينة وألم عميق أن عددا لا يستهان به من رجالتنا لم ينل حظه العادل مما هو جدير به من الاحترام والتقدير، إن ذلك لجناية على ماضينا بإطفاء مشاعله وطمس معالمه، وتشويها لحاضرنا بقطع صلته وتوهين أواصره وخسارة لمستقبلنا باستبعاد القدوة الصالحة لأجيال، والأمثلة الخالدة الرائعة لرجاله وإن من أبرز رجالات تاريخنا الحديث وأعظم من برز في علوم اللغة والآداب والتفسير والحديث قلم سوس المفرد وهرمه الشامخ المربي والمصلح الغيور والعلامة المرحوم محمد المختار السوسي فمن هو المختار السوسي؟ وما هي أهم الظروف العامة التي كانت عاملا أساسيا في تكوين شخصيته؟ وأين تتجلى اتجاهاته الاصلاحية؟ وما هي أهم المبادئ الأساسية التي بنى عليها منهجه التاريخي؟
اسمه: محمد المختار بن الحاج علي بن أحمد بن محمد بن أحمد بن سعيد بن محمد بن أحمد بن عبد الله بن سعيد، الجد الأعلى لأسرته.
وقد اختار المرحوم سنــــــــة 1374هـ 1954م بعد ظهور الحالة المدنية لقب “رضى الله” اسما عائليا له وسجله بمكتب الحالة المدنية بالدار البيضاء فصار اسمه الرسمــــــــــي “رضى الله محمد المختار السوسي” ولد في شهر صفر سنة 1318هـ الموافق لشهر يونيه سنة 1900م بقرية
دوكادير بالغ –وفي بعض المصادر 1903- وكان بكر والدته السيدة رقية، وسادس إخوانه البالغ عددهم 12، وهو أول من سمي “محمد المختار” في قبيلة ثم انتشر فيها بعد ذلك (1) وجده لأمه العلامة محمد بن العربي الأدوزي هو الذي اختار له اسم “محمد المختار” تمييزا له عن أخيه الأكبر محمد(2).
ويحدثنا السوسي عن مسقط رأسه فيقول في كتابه “سوس العالمة” “فقد سودت في إلغ” مسقط رأسي، حيث ألزمت العزلة عن الناس (3).
لقد نشأ في بيت أخذ فيه جميع الأفراد بنصيب غير يسير من المعارف والعلوم، فقد كان أبوه عالما، مارس التدريس والتأليف قبل أن ينصرف إلى التصوف الذي وصل فيه إلى درجة المشيخة، وأمه انحدرت من أسره عريقة في العلم راسخة القدم فيه منذ عدة أجيال وهي بدورها كانت تحفظ القرآن مع إلمام كاف بمبادئ العلوم الدينية كما مارست تعليم القرآن الكريم ومبادئ القراءة والكتابة لصبيان الأسرة، واستمرت على هذا العمل مدة طويلة وهذه الظاهرة نادرة الوجود في ذلك العصر في أوساط الأسر الحضرية، فأحرى أن توجد في الأسر البدوية (4).
وقد تلقى المرحوم مبادئ القراءة والكتابة وحفظ حزبين من القرآن الكريم في بيته على يد والدته، شأنه في ذلك شأن باقي إخوانه وأخواته الذين يكونون تحت رعايتها، فتتولى تعليمهم في السنوات الأولى من نشأتهم التي تسبق بلوغهم السن التي يرسلون فيها إلى الكتاب القرآني للقرية.
وقد تنقل في مرحلة حفظ القرآن الكريم وتعلم مبادئ القراءة والكتابة بين عدة كتاتيب ودامت هذه المرحلة إلى منتصف سنة 1329هـ 1911م، وأثناء تنقله عبر هذه الكتاتيب الثلاثة أتقن حفظ القرآن الكريم حيث ختمه سبع ختمات في مدة تبلغ حوالي سبع سنوات وعمره حينئذ حوالي عشر سنوات ونصف (5).
——————————————-
1) الالغيات: محمد المختار السوسي ج 3 ص 214.
2) محمد خليل: محمد المختار السوسي دراسة لشخصيته وشعره ص 17.
3) سوس العالمة: المختار السوسي.
4) محمد خليل: محمد المختار السوسي: دراسة لشخصيته وشعره ص 117.
5) محمد خليل: محمد المختار السوسي: دراسة لشخصيته وشعره ص 27 بتصرف.
وبعدما توفي أبوه الشيخ علي الدرقاوي وأصبح صاحبنا تحت كفالة أخيه محمد الذي يكبره بأربع سنوات فقط والذي وجد نفسه ملزما بتسيير شؤون أسرته، وشؤون زاوية والده فصار يلقب “محمد الخليفة” وفي هذا الوقت الذي أتقن فيه المرحوم حفظ القرآن الكريم أصبح من الضروري عليه أن يوجه إلى تلقي مبادئ العلوم حسبما جرت به العادة آنذاك في التعليم التقليدي في المغرب على العموم.
وهكذا افتتح أولا في سنة 1329هـ 1911م في المدرسة الإلغية بمسقط رأسه على يد الأستاذ أحمد البولوقتي التيزنيتي، وبعد ذلك انتقل إلى المدرسة “اغشان” حيث كان يوجد العلامة عبد الله الإلغي ابن مؤسس المدرسة الإلغية، وعليه درس السوسي مجموعة المتون النحوية والفقهية، والأدبية التي يفتتح بها التلاميذ السوسيون عادة دروسهم العلمية كالأجرومية، ولامية ابن مالك في الصرف ورسالة بن أبي زيد القيرواني، وألفية بن مالك، ولامية العجم وبعدما قضى سنتين بمدرسة إغشان التحق بمدرسة بونعمان 1913م، وكان بها الأستاذ أحمد مسعود، وقضى بها نحو سنة ازداد أثناءها تمكنا من العلوم التي تلقى مبادئها في إيغشان من لغويات ونحويات وأدبيات، ثم بعد ذلك توجه نحو مدرسة تانكرت بإفران حيث أخذ ينهل علوم عصره، وكانت في مقدمة المدارس العلمية بسوس شهرة ومكانة يقصدها طلبة العلم من جميع الجهات وكان أستاذها حينئذ الشاعر المشهور الطاهر الافراني، وفي هــــذه المدرســـة قضى المختار السوسي أزيد من أربع سنـوات أي إلـــــــى أوفــــــــر 1336هـ 1918م، ولـــم يفارقها “حتى أصبح يتذوق الأدب الرفيع وصار له اطلاع في آلاته وفنونه مما أعانه على المضي فيه قدما” وذلك بفضل أستاذه مولاي عبد الرحمان البوزكاريني على الخصوص (1).
بلغ المختار السوسي حين مغادرته مدرسة تانكرت ثمانية عشرة عاما ظهرت فيها نباهته ونبوغه وتفوقه الكبير على أقرانه ومن مدرسة تانكرت والاستفادة من دروس أساتذتها إلى كلية ابن يوسف بمراكش حيث قضى بها في طلب العلم مدة خمس سنوات درس خلالها على جملة من مشاهير شيوخها مختلف العلوم التي كانت تلقى بها حينئذ والتي لا تخرج عـــــــن
———————————–
1) أحمد بن عبد الله الروداني: مقدمة إلغ قديما وحديثا ص (يب).
العلوم الدينية من تفسير وحديث وفقه وأصول، والعلوم اللسانية من نحو وصرف وبلاغة وعروض بالإضافة إلى اعتمام يسير ومحدود بالمواد الأدبية وغالبا ما تنحصر هذه الدراسة على الأدب القديم، وكان من أبرز أساتذته في هذه المرحلة كل من محمد بن الحسن القاضي، وابن عمر السرغيني، وبوشعيب اليهلولي (1).
ولعل أبرز ما تميزت به حياته في هذه الفترة هو التفرغ إلى القراءة والدرس والتحصيل وانصرافه أكثر إلى مطالعة الكتب الأدبية التي كانت تأخذ جل أوقات مطالعته ساعده ذلك على الاطلاع في حدود ضيقة على الحياة العصرية (2).
ذلك أن إقامته في مراكش تعتبر نقطة تحول مهمة في حياته، ففي هذه السنة حل الشيخ أبو شعيب الدكالي بمراكش وبدأ يلقي دروسه الدينية التي تنبني عليها الفكرة السلفية فتأثر المختار بدروسه تأثرا كبيرا ويقول في هذا المضمار:
“في سنة 1342 طلع علينا السعد بطلوع الشيخ أبي شعيب الدكالي فكان ذلك في حياته إجافة لباب وفتحا لباب آخر (…) فانقشعت الغشاوة وتنبهت للتفريط العظيم الذي مربي في العلوم المختلفة فكان ذلك من أعظم الأسباب التي حفزتني إلى التتبع فأقبلت إقبالا كليا” (3).
إن لقاءه بهذا الشيخ أحدث تحولا جذريا في حياة السوسي، فقد تغيرت أفكاره وتوسعت مداركه، وطموحاته وازداد تشبثا بالحركة السلفية فرأى فيه المختار “من اتقان الحفظ وسعة الاطلاع وسمو المدارك والتصرف المحكم الحر والتدفق الغزير والفصاحة الخلابة ما جعله يعيد النظر في كل ماضيه ومحيطه من معلومات وأساتذة (4).
وفي سنة 1343هـ – 1924م، قرر الرحيل إلى جامعة القرويين بفاس لأنه أصبح يدرك بأن كل من سوس ومراكش لن تفيا بمراده ولن تشفيا غليله، وكان يبلغ من العمر حينئذ خمسة وعشرين سنة، وقضى بهذه المدينة أربع سنوات صحبة أخواه اللذان رافقـــــــــــــــــــــــــاه
—————————————-
1) محمد خليل المختار السوسي دراسة لشخصيته وشعره ص 47-57-67.
2) المختار السوسي: الإلغيات ج 2 ص 224.
3) الإلغيات: المختار السوسي ج 2 ص 225.
4) الغ قديما وحديثا: المختار السوسي ص (يج)
لنفس الغاية وفي هذه الفترة نال السوسي الشيء الكثير سواء من الناحية العلمية والأدبية أو من حيث تطوره الفكري والوطني والسياسي ذلك أن مدينة فاس كانت في هذه الفترة رائدة حركة النهضة الحديثة في المغرب إلى جانب كل من مدينتي الرباط وتطوان. فالتحق السوسي بالقرويين “وكان من حسن حظه أن دخل هذه الجامعة في وقت كانت فيه على أبوابها تحول جديد تتهيأ له في أشخاص جماعة من أترابه من أبناء البيوتات المغربية المجيدة في مثل مجد بيته وأسرته“(1).
ويقول هو عن نفسه: “في فاس استبدلت فكرا بفكر فتكون لي مبدأ عصري على آخر طراز، قد ارتكز على الدين والعلم والسنة القويمة فجشت بقصائد حية وهناك تعرفت على تطوانيين فاضلين هما السيد الحاج عبد السلام بنونة وأخوه الحاج محمد ورباطيين فاضلين… هما الشيخ الأستاذ المكي الناصري والأستاذ أحمد بلافريج، وكانا يردان علي في بيتي… وكانت الأفكار تتبادل فكانت هذه المدن الثلاث فاس والرباط وتطوان مركز التفكير في فجر المغرب الجديد ومن هناك تمخضت الفكرة الوطنية المرتكزة على الدين والأخلاق السامية وكنت أصاحب كل المفكرين إذ ذاك، وكانوا نخبة في العفة والعلم والدين ينظرون إلى بعيد”(2).
وهكذا نجد المختار السوسي قد نزع عنه في هذه المرحلة رداء العزلة والانطواء وتشبع في تفكيره وسلوكه الديني بالحركة السلفية وذلك بفضل تعرفه على جملة من الشباب الواعين بقضية وطنهم المتشبعين بروح الحركة السلفية وكان في مقدمتهم محمد بن العربي العلوي، وهكذا استطاع السوسي في السنوات الست السابقة لهذه المرحلة واستفاد الشيء الكثير علميا وأدبيا وفكريا ووطنيا، في الوقت الذي كان يتتبع ما يفد على هذه المدينة من الأفكار الخارجية الجديدة فيتشبع بها ويقتصها مما تجلى على الخصوص في مشاركته الفعالة في ترويج أفكار الحركة الوطنية السياسية التي كان واحدا من مؤسسيها الأوائل والتي ظهرت كرد فعل معاكس لعدم تمكن الحركة المسلحة من الوقوف في وجه الزحف الاستعماري على
—————————————-
1) نفس المرجع ص (يد)
2) محمد بن عبد الله الروداني: مقدمة إليغ قديما وحديثا ص (يد).
أطراف البلاد التي كانت تستسلم منطقة بعد أخرى –وأثر فيه على الخصوص اضطرار البطل محمد بن عبد الكريم الخطابي- زعيم الثورة الريفية- إلى الاستسلام وقد عبر بمرارة في شعره عن حسرته الشديدة على ما آلت إليه الأوضاع في البلاد، ومن فاس انتقل إلى الرباط حيث استكمل تكوينه الثقافي والعلمي وانطبع فكره بسمات جديدة لم تكن شخصيته لتطبع بها لولا بيئة وشيوخ هذه المدينة.
ثم عاد إلى مراكش وهو شاب في الثلاثين من عمره ليعطي لشخصيته أبعادا جديدة، وليكشف فيها عن جوانب خفية وخطيرة جعلت المستعمر يضطر إلى تتبع نشاطه وتشديد الرقابة عليه، فينتهي المرحوم في النهاية إلى إدراك خطورته على وجوده، مشبها مدرسته بحي الرميلة بمدرسة المهدي بن تومرت في “تيملل“.
فيخشى أن يفلت إلزاما من يده كما فلت من قرون من يد المرابطين فأبعد عن مراكش ووضع تحت الرقابة في قرية صغيرة في قلب الأطلس الصغير بعيدا عن الحواضر وعن مراكز الاتصال بالجماهير إلا أن المختار كان ذا عزيمة أقوى، وذا تفكير أعمق وذا هدف أسمى، فحول منفاه إلى مركز للبحث والتأليف وحقق فيه ما لو توقعه المستعمر لما أقدم على نفيه إلى تلك القرية بل لكان له في نفيه شأن آخر ذلك أن السوسي أقبل بكليته، بفكره وبكل قواه على التأليف في موضوعات كان في كثير منها رائدا رغم ظروف النفي القاسية التي كان يعيش فيها طيلة مدة النفي التي استغرقت تسع سنوات.
وبعد استرجاعه لحريته عاد ثانية إلى مراكش فاستأنف نشاطه العلمي والسياسي حتى إذا شعر بما يحاك ضده من جديد اختار الرحيل إلى مدينة الدار البيضاء التي سارت في أوائل سنوات الخمسين موطن التنظيمات النقابية والسياسية التي سيكون لها شأن عظيم في معركة الاستقلال، ذلك أن هذه المدينة كانت تصور الاستغلال الاستعماري للوطن وللمواطنين في أبشع مظاهره ممثلا على الخصوص في التفاوت الطبقي الشاسع الموجود بين مكانها مـــــــــــــن المواطنين القادمين إليها مـــن مجموع أنحاء البلاد وبيــــــن المستعمريــــــــن الأجـــــــــانب
الوافدين هم أيضا من مختلف الدول الاستعمارية، وفي هذه المدينة يعتقل السوسي مرة أخرى ضمن حملة شطت نخبة من إخوانه المناضلين في صفوف الحركة الوطنية عبر مختلف أنحاء البلاد وذلك تمهيدا لما ستعرفه البلاد من أزمات أدت في النهاية إلى خلع محمد الخامس عن العرش وإلى اشتعال نار المقاومة المسلحة مرة أخرى.
وعند ظهور بوادر انفراج الأزمة أطلق سراحه وزيرا في أول تشكيلة وزارية في عهد الاستقلال، وعمره حوالي خمس وخمسين سنة ولكنه يبدو وكأنه أكبر من ذلك بكثير نتيجة ما تحمله من مشاق خلال الثلاثين سنة السابقة.
لكن وبالرغم من كل ذلك لم يخلد المختار إلى الراحة ولم يستمتع بكرسي الوزارة الذي قضى فيه السنوات الثمانية الأخيرة من حياته بل واصل نضاله بطريقة اقتنع بأن شعبه لا يزال في حاجة إلى ذلك النوع من النضال، حيث اعتزل الصراعات السياسية التي ظهرت من أجل الوصول إلى السلطة أو الانفراد بها وانصرف إلى التوجيه الديني والخلقي وإلى طبع مؤلفاته التي وضعها من قبل وقضى بقية عمره في عيشة متواضعة بسيطة متقشفة لم تختلف في شيء عن حياته في عهد الحماية إلا في سيارة الوزارة الفخمة التي كان مرغما على استعمالها بحكم منصبه(1).
—————————————-
1) محمد خليل: محمد المختار السوسي –دراسة لشخصيته وشعره ص: 147- 148- 149.
المبحث الثاني: أثر الظروف العامة في تكوين شخصية السوسي
أ- المؤثر التربوي الديني الأساسي الأول:
عرفنا أن السوسي نشأ وترعرع وعاش طفولته الأولى في أحضان أسرة دينية محافظة، لها اتجاه سلوكي روحي معروف، في ميدان الثبات والصمود والتمسك بالعقيدة الصحيحة، والإيمان المطلق إلى حد الورع والزهد والتصوف المعتدل ومن هنا تربى السوسي تربيته الجذرية الأساسية الأولى على هذا النحو، حتى انغرست في ذهنه هذه المعالم السلوكية الروحية، ولو نظرنا على الأقل من الوجهة البسيكولوجية النفسية، ومن الوجهة البيداغوجية التربوية نظرا لصغر سنه في هذه المرحلة، وانطلاقا من هذا الأساس الذي –لاشك- أنه ترك بصماته المؤثرة في تكوين شخصية السوسي، درج رحمه الله طول حياته معتزا بعقيدته الدينية، مدافعا عنها من الناحية الروحية، على الأقل من وجهة نظره، لدرجة أنه تعرض لبعض الانتقادات فيما يخص موقفه من الطرقية والطرقيين الذي تبدو مساندته إياهم واضحة كما أشار إلى ذلك الأستاذ عبد الصمد بلكبير في مجلة “الثقافة الجديدة“. وقد يرجع هذا إلى ما سبق أن أشرنا إليه بخصوص تربيته وتكوينه وثقافته(1).
ب- المؤثر الثقافي العلمي التقليدي:
إن شخصية المختار لم تكن تنحصر في الجانب الديني فقط، وإنما كانت لها جوانب أخرى فهو عالم متضلع في اللغة العربية في شتى ميادينها، وقد نال في هذا الجانب إعجاب معاصريه من كبار العلماء والمثقفين وصفه محمد القباج –والسوسي لا يزال طالبا بالرباط بقوله: “شاب لا يزال في ريعان شبابه متضلع من اللغة العربية تضلعا كبيرا يعجز عنه من هو أكبر منه سنا (…) يحادثك في مواضيع من العلم شتى بكلام لين وصوت خافت…”(2).
درج السوسي منذ نعومة أظافره على الاعتراف من علوم عصره التقليدية المعروفة آنذاك سواء في بلدته بسوس أو خارجها، وقد تحدثنا عن ذلك بما فيه الكفاية.
—————————————-
1) مجلة الايمان: عدد 113 – 11 ص 26 للأستاذ أحمد بودهان.
2) محمد العباس القباج: الأدب العربي في المغرب الأقصى ج 2 ص 6.
“محمد المختار السوسي يعد في مقدمة رجال العلم والمعرفة والاطلاع، شخصيته فذة قلما نجده يذكر الكراسي والكتاب من يده، لا تراه إلا قارئا مطالعا وحده وبين الملة من إخوانه على السواء(…) لا يثنيه عن المعرفة في شتى أفانينها شيء منذ الفتاء إلى الشيخوخة إلى أن وافاه الأجل..”(1) بهذه العبارة تحدث عنه الأستاذ عبد الله الجراري، وبعبارات أخرى مماثلة تحدث عنه العديد من الذين كتبوا عنه وكانوا معاصرين له أو مرافقيه في الدراسة أو الوطنية فهو إذن ذو مكانة علمية بارزة اشتركت العوامل السالفة الذكر في تكوينها وفي صبغها بصبغتها الخاصة التي يعتبر التنوع من أبرز مظاهرها.
ج- المؤثر البيئي الاجتماعي:
المعروف عن السوسيين أنهم رجال معروفون بجديتهم وحيويتهم وطموحاتهم وتشبثهم بعرفيتهم السوسية الاقليمية، وبأصالتهم العرفية والتقليدية والاجتماعية، حتى ولو أرغمتهم الظروف وطوحتهم خارج حدود إقليمهم وهذه ليست نزعة تعصبية إقليمية بقدر ما هي اعتراف وحنين وشوق إلى أرض النشأة الأولى، ومن منا لا يحن إلى مسقط رأسه، وبيئة طفولته وهذا ما جعل السوسي يتأثر كغيره أو أكثر بانتمائه البيئي كسوس فإذا هو يكن لسوس كل ذلك التقدير والتنويه في مؤلفاته كما سأتطرق إلى تحليل ذلك تحليلا أوسع في غير هذا المبحث.
د- مؤثر التيار السلفي المعاصر:
سبق أن أشرت بأن السوسي احتك مع الكثير من الشخصيات الدينية، التي كان لها وجود ملحوظ في الحركة الاصلاحية السلفية الدينية، الهادفة إلى إحياء التراث بالرجوع إلى ما كان عليه السلف الصالح قصد المحافظة على مقومات الشخصية الاسلامية الصحيحة وتنقيتها من الشوائب والاسراف والغلو في الماديات الجاحدة، حيث اتصل بمراكش –كما سبق الذكر- بأبي شعيب الدكالي والشيخ السلفي محمد بن العربي العلوي وغيرهم من الشخصيات السلفية المغربية المعاصرة له، وبالاضافة إلى هذه اللقاءات المباشرة نجد أيضا أن
—————————————-
1) عبد الله الجراري: أعلام الفكر المعاصر ج 2 ص 79.
السوسي قد انكب –ولا شك- على قراءة تراث السلفيين الأوائل بالمشرق والمغرب كابن القيم، وبن تيمية، وابن عبد الوهاب، والأفغاني، وعبده، والسنوسي، والثعالبي، وابن بادس، ثم مما لاشك فيه أخيرا أن السوسي وهو الباحث والمدقق والمفكر لم يكن مجرد قارئ وتابع لآراء وأفكار هؤلاء بقدر ما كان محققا ومعللا ومحللا وصوبا به، وبالتالي أصبح عالما ومصلحا سلفيا معاصرا ومتفتحا نسبيا كما يرى بعض الباحثين والنقاد.
وكيفما كان الحال هنا وخاصة في سلفية السوسي من حيث التقليد والجديد، فإن السوسي قد تأثر بالتيار السلفي المعروف قديما وحديثا بحكم اطلاعه وبحثه وطموحاته ككاتب وباحث ومؤلف ومصلح…
هـ- المؤثر السياسي الوطني والقومي:
لم يكن السوسي وهو منكب على الدراسة والتحصيل والتأليف غائبا عما يجري في الوطن العربي والاسلامي من حركات ونهوض وانبعاث فكر جديد لمواجهة الاستعمار، وتحرير الشعوب المغلوبة على أمرها، بل أن السوسي –بحكم تلك الظروف- كان يعيش أحداث الأمة الإسلامية عموما، والمغرب خصوصا، وذلك في ميدان السياسة والوطنية والقومية العربية. وكيف لا يعيش السوسي هذه الأحداث ويتأثر بها، وهو والحالة هذه من طلاب القرويين آنذاك والذين منهم تأسست اللبنات والخلايا الأولى للحركات الوطنية المباركة في المغرب والتي كانت وبالا على المستعمر.
ويحدثنا السوسي رحمه الله عن هذه المؤثرات كما سبق أن أشرت: “…فتمخضت الحركة الوطنية المرتكزة على الدين والأخلاق السامية…” هذا بالنسبة للمؤثر السياسي الوطني المحلي. أما بالنسبة للمؤثر السياسي القومي على الصعيد العربي، فإن السوسي “أيضا لم يكن يجهل ذلك التيار المتمثل في “القومية العربية” التي نادى بها المفكرون العرب وعلى رأسهم شكيب أرسلان، والتي تهدف في أصلها وجوهرها إلى توحيد صفوف الأمة العربية لتعمل جنبا إلى جنب حتى تستعيد مكانتها ومقوماتها وحريتها من بين القوميات العامة(1).
—————————————
1) مجلة الإيمان: بحث للأستاذ أحمد بودهان، عدد 113- 114 ص 63 – 64.
تلكم كانت هي أهم المؤثرات التي عكست وطبعت شخصية السوسي بالإضافة إلى مواهبه الخاصة واستنتاجاته وآرائه التي مكنته من أن يصنف في قائمة رواد النهضة والإصلاح بالمغرب فما هي إذن مجالاته واتجاهاته الإصلاحية؟ هذا ما سيجمله المبحث التالي.
المبحث الثالث: جهاد السوسي ونضاله في المجالات الإصلاحية
– إصلاحات السوسي في مجال العقيدة والدين والوطنية:
في هذا المجال الديني والوطني والعقيدي يعتبر المختار السوسي من قادة الزمرة الأولى الذين يغارون على دينهم ووطنهم وعقيدتهم فإنه رحمه الله مؤمنا سلفيا، صادق الإيمان، ثابت التوحيد، راسخ العقيدة.
وتدين المرحوم لم يكن متزمت تزمت رجال التصوف، بل كان نابعا من المبدأ السلفي الرامي إلى التمسك بالدين الحنيف اعتمادا على منابعه الأصلية المتمثلة في الكتاب والسنة حيث تأثر في هذا الجانب بشخصيات أخرى كما سبق الذكر وكان وهو طالب في مراكش يتأمل ما كان يقوله شيخه عمر الجراري في مهاجمته العنيفة للبدع الطرقية ودعوته إلى التمسك بالسنة الصحيحة وكان يرى أن التصوف ليس في جوهره لبس المرقعات، ولا التقلد بالسبحات، ولا الحلق المستديرات، ولا الإغراق في محبة الشيوخ… بل التصوف هو الاستقامة على السنة الصحيحة التي كان عليها الرسول وأصحابه والمصدر الأول من السلف الصالح رضي الله عنهم فكيف يفلح من يعمل عن قصد عمل لم يعمله الرسول محتجا بأن فلانا يفعل ذلك لاها الله لا خير إلا في السنة ولا فلاح إلا لمن يحرض على أن لا يخرج عما صح عن خير المرسلين الذي أرحنا بالاقتداء به وحده (1) ((وما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا))(2).
ويدعو إلى تصفية الدين مما علق به فيقول: “لو كنا دولة إسلامية حقا لكان يجب أن تقوم لنصفي ديننا من البدع وتصوفنا مما مازجه، ونأخذ بحجز المبتدعين مما هم فيه ولو مرغمين“(3).
ويضيف ملحا على تمسكه بمبدئه السلفي فيقول: “مبدئي هو مبدأ السلفية، وأنا أعلن ذلك، وأوقن أن الدين الخالص هو ما كان عليه السلف الصالح وما لم يكن ذلك اليوم دينا فلا يكون اليوم دينا وأعرف أن التصوف الذي مدلوله الاخـــلاص فـــــــــي
—————————————
1) محمد خليل: محمد المختار السوسي، دراسة لشخصيته وشعره ص 150.
2) سورة الحشر الآية 95.
3) محمد المختار السوسي: الترياق المداوي ص (ب).
العمل بالعلـم الصحيح، هو الحق الذي لا غبار عليه، وأن السنة سنة، وهي ما صح عن الرسول وأن تملأ الناس على تركها، وأن البدعة، وهي ما لم يثبت عن الرسول وأن تملأ الناس عن اعتناقها فهذه عقيدتي، وعلى هذا أحيا وعليه أموت فلا أقلد في ترك سنة ولا في اعتناق بدعة“.
لقد أفنى جهده في الدفاع عن هذا المبدأ بالكلمة وبالممارسة تجلى دفاعه بالكلمة في محاضراته وخطب الجمعة التي كان يلقيها من حين لآخر، وفي دروسه الدينية الإرشادية المساجد التي واضب على إلقائها إلى آخر رمق من حياته، وذلك في مختلف المدن التي عاش فيها انطلاقا من مراكش بمساجد الكتبية وسيدي عبد العزيز، وباب دكالة إلى الدار البيضاء بالمسجدين المحمدي واليوسفي، ومسجد الحفاري واختتاما بالرباط حيث كان يحافظ سنويا وخلال أيام شهر رمضان على إعطاء دروس دينية في مسجد حي يعقوب المنصور، وقد تمكن من تحقيق هذا المبدأ وذلك بوضع تآليف دينية عديدة(1).
ومن هذا المنطلق الديني السلفي الذي سار فيه السوسي لفت انتباه المستعمر إليه، فإذا بالدخيل الغاشم بدأ يراوده الشك في كل أعمال السوسي وسكناته وحركاته، رغم أن المرحوم حاول أن يوهم الاستعمال أن عمله لا يخرج من نطاق العقيدة الدينية وأنه لا علاقة له بالسياسة وتفهم ذلك من قوله: “لا أزال متمسكا بمدئي ومعرضا عن أي قيد وإن كان مذهبا… فأنا مسلم وطني لا سياسي وطني، فوطنيتي من إسلامي لا أن إسلامي من وطنيتي”(2).
إلا أن المستعمر بدهائه وفكره كان يعلم أن الدفاع عن الدين بالطريقة التي ينهجها السوسي لا يمكن أن تكون بعيدة عن الوضع السياسي الراهن الذي يتردى في أحضان الاستعمار ورغم هذا فإن السوسي لم يخف في الله لومة لائم ولم يتراجع عن مناهضة خصوم الإسلام، وفي هذا الموضوع يقول عنه مصطفى الزباخ: “امتزج وعي السوسي السياسي الوطني بالنضال الفكري الإصلاحي الديني الذي كان امتدادا لمؤثرات بيئية وثقافية”(3).
—————————————
1) محمد خليل: محمد المختار السوسي –دراسة لشخصيته وشعره ص 151.
2) محمد المختار السوسي: الإلغيات ج 2 ص 188.
3) مصطفى الزباخ: الرائد في دراسة الأدب العربي الحديث –ص 95.
ولعل هذا ما جعل الاستعمار ينقم عليه كما سيأتي، رغم أنه استعمل “التقية” في السياسة الإصلاحية الدينية هذه نظرا لكونه لم يكن ثائرا ملحوظا ومعروفا في هذا المجال، ولم يعلن صراحة عن انتقاداته وجدلياته ولم يفصح عن مبادئه السلفية الحديثة وإنما صاغ ذلك في قالب تاريخي واجتماعي وحضاري وسياسي وفكري ليطعن الاستعمار من الخلف عندما حاول تقسيم المغاربة بإصداره للظهير البربري سنة 1930م.
ومن هنا نجد السوسي قد تعرض للنفي والاضطهاد الفرنسي كما قال عن نفسه “نفيت إلى بادية سوس في مختتم 1355هـ 1937م وأفرج عني الإفراج التام في مختتم 1364هـ 1945م“(1) كما ثبت أيضا أنه نفي مرارا وتكرارا وخاصة في المرحلة السياسية العصبية التي عاشها المغرب ما بين 1952-1955م حين اشتد القمع الاستعماري وحين امتدت يده إلى نفي السلطان محمد الخامس وتشريد العديد من قادة الحركة الوطنية.
لكن مرحلة النفي لم تحد من نضال السوسي الوطني، بل إن الفترة التي قضاها منفيا ما هي إلا واجهة نضالية جديدة فتحها المرحوم في المنفى، حيث وجد نفسه محروما من الأعمال بالجماهير التي كان يغرس فيها مبادئه في الإصلاح والتوعية.
وانطلاقا من منظوره الخاص الذي يرى أن انبعاث هذه الأمة لن يتحقق إلا بتحقيق نهضة علمية، كذلك نجده قضى تسع سنوات من النفي كلها في البحث في تاريخ سوس العلمي والحضاري.
ولما عاد السوسي إلى مراكش في شهر ذي القعدة 1364هـ أكتوبر 1954م استأنف نشاطه الوطني من الوجهة التي ظل يؤمن بها ويخلص لها أي التعليم والإرشاد وتكوين الأجيال فكريا ووطنيا، ولم تغره الحفاوة التي أحاطه بها الوطنيون إثر عودته بل كان يستغل أي فرصة سانحة للقيام بواجبه الإرشادي الإصلاحي ويشير تصريحا بأنه غير طامع في زعامة أو جاه(2).
—————————————–
1) سوس العالمية: محمد المختار السوسي.
2) محمد المختار السوسي دراسة لشخصيته وشعره: محمد خليل ص 171.
وهكذا نرى أن نشاط السوسي الوطني بعد العودة من المنفى لم يقل عن نشاطه قبله ذلك أنه أعاد فتح مدرسة الرميلة التي استأنفت القيام بدورها التعليمي التربوي، وواصل تحركه على الصعيدين المحلي والوطني، إذ كان أبرز ما قام به محليا رئاسة اللجنة التي سهرت على بناء مدرسة محمد الخامس بروض العروس، وكان ذلك ضمن خطة وطنية تمخض عنها بناء عدة مدارس عصرية عربية يديرها الوطنيون وينفق عليها المكان كمدارس محمد الخامس بالرباط ومدرسة النهضة بسلا، ومدرسة للاعائشة بالدار البيضاء.
وتدخل مشاركته في وفد جمعية الحرمين الشريفين الذي زار تونس سنة 1367هـ 1948م، وفي مؤتمر الثقافة الإسلامية الذي نظمته الجمعية الخلدونية بتونس في ذي القعدة 1368هـ – 1947م، أقول: تدخل مشاركته هذه في سبيل آدائه لواجبه باعتباره مصلحا دينيا يؤمن بأن لا نضال بدون إسلام ولا إيمان بدون نضال من أجل كرامة الوطن، تجلت هذه الازدواجية في شخصية المختار إلى أن فارق الحياة حيث نجده يتحلى بهذه الخصلة حينما رحل –مضطرا إلى الدار البيضاء سنة 1370هـ – 1950م فكان دوره وهو يتصل بمناضلي هذه المدينة منصبا على تعميق الوعي الديني في نفوسهم، ونفس الشيء عنده وهو يعيش في معتقل “أغبالو نكردوس” بتافلالت وسط حوالي خمسين معتقلا سياسيا فقد كان له دور إيجابي وفعال في هذا المعتقل في إلقاء دروس ومحاضرات على المعتقلين في الدين واللغة والتاريخ وكان يتدخل لإصلاح الخلافات التي تنشأ بينهم –من حين لآخر- حاثا إخوانه على التحلي بالخصال الحميدة دينيا وخلقيا، إذ لا خير في نظره في نضال لا يعتمد على الدين والقدوة الحسنة في السلوك(1).
– إصلاحيات السوسي في مجال التعليم ونشر الوعي:
يعتبر المختار السوسي امتداد للمدرسة الإصلاحية في عصره، فقد تعاطى للتدريس وهو لا يزال طالبا بجامعة ابن يوسف بمراكش خلال سنوات 1920 و 1924، لأنه كان غيورا على تراثه الأدبي والفكري، الذي أخذ يضيع تدريجيا أمام سياسة التجميل التي كان يمارسها الاستعمار على الشعب المغربي، فكانت مساهمته في تأسيس المدارس الحرة خطــــــــــوة
————————————
1) محمد خليل: محمد المختار السوسي دراسة لحياته وشعره ص 172-173 .
من خطواته الإصلاحية، وهكذا اجتهد من أجل إحياء التعليم ونشر الوعي الفكري والثقافي وخاصة بفاس ومراكش، فاستفاد من علومه وإرشاداته أبناء الوطن التي تلقاها في المرحلة الأخيرة عن شيوخه بمدينة الرباط، ولعله كان متأثرا في هذا الاختيار بشخصية والده الشيخ الصوفي الذي قضى أزيد من ربع قرن سائحا عبر الأقاليم موجها ومربيا ومرشدا.
وإقباله على هذه المهنة ليس نابعا من كونه أراد أن يجعلها وسيلة لكسب القوت، أو للإثراء ولكنه اختارها لتكون وسيلة لنشر مبادئه الإصلاحية الهادفة إلى توعية الأمة وتنوير العقول الصاعدة سواء على المستوى الديني أو العلمي أو الخلقي، كي يكونوا قادرين على تحرير وطنهم من ريقة الاستعمار، ومؤهلين للرفع من شأنه بين الأمم الأخرى(1).
إن دور السوسي في هذا المجال كان في الطليعة بالمقارنة إلى مجالاته الإصلاحية الأخرى ويكفيك أن تتصفح كتب تاريخ النهضة والانبعاث بالمغرب، فتجد ما ذكره عبد الكريم غلاب عنه في هذا الصدد إذ يقول: “وفي نفس الوقت وحول المدرسة الناصرية تأسست جمعيتان أحدهما ثقافية، كان يرأسها الأستاذ المرحوم السوسي، والثانية سياسية سرية كان يترأسها أصغر الأعضاء سنا، وهو المرحوم علال الفاسي(2).
كما حل المرحوم السوسي بمراكش عازما على أداء رسالته هناك فقال: “حللت بالحمراء وقد ألقيت فيها مرساتي وأنوي أن أقضي الواجب علي لديني ولوطني ولشعبي ما بين تلميذ يهذب وبين درس إرشاد يلقى، وأنا في جانب ذاك أعاني اليراع فيما عسى أن يرفع من شأن هذه الأمة من إحياء ما اندثر من ماضيها، ومن المحافظة على العربية الفصحى التي أراها إذ ذاك في انهيار، ففي هذه الميادين الثلاثة قضيت أزمانا تكشفت عن أعمال كان فضل الله علي فيها عظيما(3).
كما يحدثنا عن فتحه مدرسة “الرميلة” التي قصد بها أن تكون إحدى دعائم علمه التربوي فيقول: “نزلت مراكش في أول محرم 1348هـ، بعدما أخذت ما تيسر لي عـــــــــــــن
————————————
1) نفس المرجع: 158 (بتصرف) .
2) عبد الكريم غلاب: تاريخ النهضة والانبعاث بالمغرب ص 83.
3) المختار السوسي: المعسول ج 1 ص 15.
أساتذتي بفاس والرباط، وبعد أن عقدت العزم على إمضاء بقية عمري في المعارف. وإن كنت لا أدري كيف أصنع في ذلك، وما هي الطريقة التي سأسلكها، لأن من لم يخض بعد مخاضه قلما يدرك بادئ ذي بدء، مقدار غورها ولا كيف يضع الرجل فيها الخطوة الأولى، كما أنني افتتحت بعض الدروس في المساجد الكبرى ليلا ونهارا، حتى سمع الناس بهذا العمل فشكروه”(1).
لم يدفع التلاميذ أو أولياؤهم أي مقابل للشيخ السوسي لأن معظمهم ينحدرون من أسر ضعيفة وخاصة التلاميذ الذين كانوا يقدمون عليه من مختلف المدن كالبيضاء والجديدة، ولم تمض إلا فترة قصيرة حتى تجاوز عدد تلاميذ المختار ثلاثمائة تلميذ.
وكان مورده الأساسي في ذلك يأتي مما يحصل عليه بعرق جبينه إذ يقول: ” أقاسي عنئا شديدا في إصلاح الزاوية التي حولتها إلى محل للتعليم، لتليق لما أريده منها… فيعلم الله ما مر علي في السنوات الأولى منذ ألزمت نفسي بالنفقة على كل من انقطع إلى الزاوية من التلاميذ الفقراء وفي سبيل الله ما كنت ألاقيه في ذلك، ثم تهيأ المحل بعد سنوات، فقد كنا نعمل فيه شيئا فشيئا، كل سنة لأنني كنت أحرث وأشارك في تربية الغنم، فكل ما تيسر فكثيره منها” (2).
وقد سلك في تعليمه منهجا تربويا يمتزج فيه حفظ القرآن بتلقي علوم الدين واللغة والأدب مع الاهتمام بإظهار مواهب التلاميذ والعمل على رعايتها وإبرازها وتنميتها، كما عمل رحمه الله على خلق سوق أدبية عربية يعقد كل يوم الأربعاء. تلقى فيها عدة قصائد فخرية وحماسية نظمها الأستاذ على لسان التلاميذ، وقد حضر هذه السوق كثير من أعلام الآداب كعلال الفاسي ومحمد بن العربي العلوي وغيرهما(3).
وقد رفض كل الوظائف التي عرضت عليه، رغم سمو مركزها المالي والاجتماعي لأنه كما سبق أن أشير إلى ذلك، لأنه يرى في عمله هذا أداة فعالة يمكنه بها أداة رسالة سامية في المجتمع. ولهذا السبب زهد في الزواج وفي إنجاب الأولاد مدة طويلة، إذ لم يتزوج إلا فــــــــــي
————————————
1) المختار السوسي الإلغيات ج1 ص 3-8.
2) المختار السوسي الإلغيات ج1 ص 8.
3) مجلة الايمان العدد 113-114 ص 19-92.
سن السادسة والثلاثين والذي اختار في نهاية الأمر زوجة كانت تتولى بنفسها طبخ الطعام للتلاميذ في مدرسته، وفي هذا الصدد يقول: “لم أكن قط متشوقا إلى الأولاد، لأنني أعدتني دائما كالجندي في الميدان تحت كلائل الاستعمار، حيث لا يتأتى الاستقرار وهل الجندي في المعجة أن يحمل ثقل الأولاد؟(1).
—————————
4) المختار السوسي: الإلغيات ج 1 ص 3-178.
إصلاحات السوسي في ميدان إحياء التراث الحضاري التاريخي وتخليده:
إن الاهتمام بالتاريخ سواء كموضوع أو كعلم يحصل غالبا بالنسبة لمختلف الشعوب القومية في مراحل التقهقر أو المراحل الانتقالية وهي في الحالتين تعود إلى الماضي وماضيها بالذات المقصور والمقروء قراءة خاصة وملائمة لحالتها. كذلك للتحصين فيه وتحافظ على كيانها أمام خطر خارجي خصوصا وهي كذلك تفعل هذا من أجل أن تسترجع تقتها بنفسها وتنتقي من تراثها وسائل تساعدها على تحقيق نهضتها ومن هنا نجد أن الباعث أو الظرف العام الذي كان المغرب يحياه في الفترة الاستعمارية جعلت المختار يتخذ هذه الطريق. ولقد كان من حذاقة مؤرخنا أن جعل من هذا النفي نقطة انطلاق لا انكماش، حيث كانت تآليفه رد فعل عكسي لاشك أن المستعمر لم ينتبه إلى أهميته ولو بصفة غير مباشرة فقد قدم محمد المختار بهذه المؤلفات خدمة جليلة لمجتمعه ووطنه لعلها لم تكن أقل أهمية عما كان بصدده وهو يناضل في صفوف الحركة الوطنية لما كان طالبا بفاس أو أستاذا بمراكش وله في المعسول إشارة إلى بعض الدواعي والأسباب التي أقنعته بالتأليف في الموضوعات التي أخذت منه كل وقته طيلة سنوات المنفى وجزءا غير يسير من حياته بعده.
يقول: “في هذا اليوم دهم علينا الاستعمار بخيله ورجله بلونه وفكره بسياسته ومكره بحضارته المشعة، بعلومه الحيوية المادية، بنظامه العجيب بمعالمه المنتجة السريعة بكل شيء يمت إلى الحياة الواقعية فوقع لنا كما وقع لأصحاب الكهف يوم رجعوا إلى الحياة(…) فإذا بالمغرب يتحول في عهد قصير إلى مغرب آخر يغاير كل ما كان معروفا منه بالأمس(…) هكذا أصبحنا نرى كثيرا من تراثنا يضمحل بكل سرعة ثم لا يطمع أن يتراجع إليه الأخلاق إلا بعد زمان نطلب الله أن لا يطول..”(1).
إلا أن عمل المختار هذا ليس عملا فرديا منعزلا، وإنما يدخل في إطار حركة ثقافية منظمة وهادفة تزعمتها الحركة السلفية أولا ثم الحركة الوطنية من بعد. هذا التيار الثقافي الذي جاء نتيجة الاصطدام العنيف بين الثقافة القومية والثقافة الغربية الدخيلة التي تحدتها، وهدفه
————————————
1) المعسول: محمد المختار السوسي ج 1 (المقدمة) ص (ج – د).
هو معارضة الغزو الثقافي الأجنبي بإحياء التراث الوطني وقد كان مؤرخــا يشعر بتحدي هذا الخطر الثقافي ويبذل ما في وسعه لمجابهته ونذكر على سبيل المثال بعض الشخصيات التي كانت تعمل في نفس هذا الاتجاه وإن تفاوتت أعمالهم من حيث القيمة والمنهج، هناك القاضي ابن العباس التعارجي أحد شيوخ المختار السوسي، الذي ألف ثمانية أجزاء في تراجم علماء مراكش وزهادها، ومحمد الكانوني العبدي الذي كان من نصيبه تدوين تاريخ آسفي وعبدة ودكالة، ومحمد داود الذي جمع موسوعة حول تاريخ تطوان وناحيتها، ابن زيدان الذي اهتم بتدوين تاريخ مكناس وتاريخ الدولة العلوية. وكذلك كان الأمر بالنسبة لمدن أخرى مثل سلا، طنجة، درعة، تافلالت…الخ.
وخلاصة القول يمكن اعتبار هذا التيار التاريخي والثقافي العام حلقة في سلسلة الكفاح الوطني لمجابهة الاحتلال الأجنبي وما كان يتضمنه من خطر على التراث الوطني ومن تهديد للقيم الحضارية القومية (1). هذا بالنسبة للظروف الثقافية والتاريخية التي كان يعمل في إطارها مؤرخنا.
ولما عزم محمد المختار السوسي على المساهمة في هذا العمل –كتابة تاريخ المغرب- وجد نفسه أمام عمل جد صعب حيث تحتم عليه الانطلاق من نقطة البداية وقد عبر عن ذلك بقوله:
“في المغرب حواضر وبوادي، وتاريخه العلمي لا يمكن أن يتكون تكونا تاما إلا من التواريخ الخاصة لكل حاضرة من تلك الحواضر، ولكل بادية من تلك البوادي… فإذا كانت بعض “الحواضر فازت بما يليق عن تاريخها العلمي بعض ضوء ينير الطريق للسالكين فإن تلك البوادي المترامية لا تزال داجية الآفاق في أنظار المتطلعين الباحثين…(2).
وهكذا نجد السوسي قد اهتم في تاريخه بمنطقة سوس التي لم تكن موضع عناية مؤرخ سابق، الشيء الذي جعله يقف أمام مادة تاريخية منسية خاما، وحاول أن يخرجها من المجهول إلى المعلوم، فكتب عن هذا الإقليم في مختلف الجوانب بكل ما يتعلق به خاصـــــــــة في
————————————
1) مجلة دروس في الحركة السلفية: بحث للأستاذ حميد التريكي ص 106.
2) محمد المختار السوسي: سوس العالمة ص (أو).
الجانبين العلمي والاجتماعي حيث أدلى بدلوه في تلك الموضوعات رغم تشعبها وعدم توافر الإمكانات المادية والمعنوية في جميع الأحوال ليتيسر تناولها. وهكذا أخذ يجمع كل ما يصح أن يجمع ولكنه لم يخضعه لمنهجية دقيقة بل نجده على الجمع والسرد ولا يعتمد على ترتيب الحوادث وافتراض علاتها ويقول السوسي بصدد هذا: “… كما لاداعي أنني بلغت الغاية أو اتبعت المنهج العلمي في الدقة وإنما ادعي أنني حرصت على أمانة النقل عن المصادر – وأغلبها من أفواه رجالات الأسر – واجتهدت على أن أتبع الترتيب المنطقي أن حاولت الاستنتاج بادلا جهدي ما استطعت (1).
ومع ذلك يستطيع الباحث في التاريخ أن يجد ضالته في آثار محمد المختار السوسي لما تتضمنه من وثائق وحقائق تقدم للباحث المادة الخام والغنية بما يساعده الوصول إلى مبتغاه العلمي.
فوصف محمد المختار: الآثار والعادات وجمع الأمثال والأشعار الشعبية وتحدث عن الأعراف، ودون الأنساب، وروى أخبار المعارك والحروب القبلية والاستعمارية والناتجة عن الصراع على السلطة. كما تحدث عن المراكز العلمية، وطرق تسييرها وتمويلها، وترجم إلى الأمازيغية السوسية كتبا دينية، وأرخ لنصيب اللغة العربية في تأثيرها على الأمازيغية السوسية إلى غير ذلك من الأعمال والفوائد التي تتضمنها هذه الآثار، كما ترجم للرؤساء/ والعلماء وأضرابهم فكانت مؤلفاته أقرب إلى الموسوعات منها إلى التأليف العادية (2).
ويشير السوسي بأن كل ما كتبه عن سوس إنما قصد به وجه العلم وإظهار الحق وإبراز مكانة ناحية من المغرب كاد أن يجهل ويندثر دورها التاريخي والعلمي في تاريــــــــــــــــخ المغرب لولا اهتمام السوسي به، وهو عمل يعد قدوة لباقي المفكرين والكتاب الذين يجب أن يحذوا حذوه، فيكشفون عن كنوز مناطقهم في ميدان الفكر والعرفان ولهذا وجه السوسي دعوة جهرية إلى بني إقليمه بل يدعو الناس والمثقفين منهم على الخصوص إلـــــــى
—————————————
1) المعسول: محمد المختار السوسي: ج 1 ص ( ه – و)
2) محمد خليل: محمد المختار السوسي دراسة لشخصينه وشعره ص: 223.
العناية كمثل ما صرف اهتمامه من تاريخ البلدان والأقاليم وهو لا يرى في ذلك أي نقص أو بالأحرى أي دعوة للعنصرية بقدر ما هي مجال للعمل والمناقشة العلمية ويتبرأ المختار من مثل هذه الظنون حيث يقول: ” ثم أقول لإخواني السوسيين من الشباب لا تظنوا أني في كل ما سودته مما كتبته في مختلف تلك الأجزاء الخمسين مما خصص بالرجال أو بالحوادث أو بالرحلات أديت به عشر المعشار من الواجب عن سوسهم، فإنني ما عدت أن جمعت ما تيسر جمعه بسيطا كيفما اتفق بعلم متعتر أو أسلوب لا يزال يتبع خطى أساليب القرون الوسطى إلا أنني لا أنكر أنني حاولت فتح الباب فبذلت جهدي وأفرغت وسعي، فكم غلط لابد أن يقع لي وكم من تحريف أو بتصحيح اسم لا جرم واقع فيه، فعليهم أن يقوموا لتمموا وليصلحوا الأغلاط فهل من يجيب?” (1).
وهكذا نجد السوسي قد دعا في مقدمته هاته ورواد الفكر المغربي إلى الاهتمام بمناطقهم ليتمكنوا بالتالي من وضع تاريخ علني عام للمغرب وليدفعوا عنه ما قد يوحي به اختصاص مؤلفاته في سوس ونواحيها من عنصرية وإقليمية ضيقة.
ولم يقتصر محمد المختار السوسي في مؤلفاته عن إقليم سوس وحده وإنما كان يكيف ظروفه مع عمله العلمي، ذلك أنه لما كان بمراكش شرع في وضع مؤلف عن تاريخها وهو الذي سماه ب ” مراكش في عصرها الذهبي” قطع في كتابته أشواطا مهمة وكان هدفه منه أن يضاهي به كتاب ” عصر المامون” ولما كان معتقلا بتافلالت وضع كتابين مهمين:
– الأول عن تاريخ سجلماسة.
– والثاني أسماه “معتقل الصحراء” وهو في جزءين خصص الجزء الثاني منه لتراجم زملائه في المعتقل وعددهم حوالي خمسين من كبار رجال الحركة الوطنية الذين أبلوا البلاء الحسن في سبيل تحقيق الحرية والاستقلال. وفي كتاب “حول مائدة الغذاء” سرد لكثير من جوانب تاريخ المغرب في عهد السلطان المولى الحسن الأول.
————————————
1) محمد المختار السوسي: سوس العالمة ص (أ – و)
ولا تخلوا كتبه الأخرى من إشارات إلى موضوعات تاريخية شتى تفيد بصفة خاصة المؤرخ بما تقدمه له من مادة خام ومن وثائق نادرة(1).
– المبادئ الأساسية التي بنى عليها السوسي منهجه التاريخي:
إن تخليد الأمم والشعوب لا يكون إلا بتدوين وتسجيل تاريخها وذلك يتطلب أولا وقبل كل شيء ضرورة جمع المواد الخام اللازمة من جراء التحولات السريعة الناتجة عن الاستعمار ولنترك مؤرخنا يعرض علينا ذلك:
“فهؤلاء الأحفاد يجب على من وفقه الله من أبناء اليوم أن يسعى في إيجاد المواد الخام لهم في كل ناحية من النواحي التي تندثر بين أعيننا، وما ذلك إلا بإيجاد المراجع للتاريخ، يسجل فيها عن أمس كل ما يمكن من الأخبار والعادات والأعمال والمحافظة على المثل العليا”(2).
نفهم من قول السوسي هذا بأن أي إهمال أو تهاون في التاريخ سيؤدي حتما ليس إلى فقدان حلقات في تاريخها بل قد يؤدي إلى اقبار حضارات وثقافات وبالتالي إلى حرمان الأحفاد من الاطلاع على تاريخ الأجداد. كما آمن بأن الوصول إلى الهدف المنشود في كتابة تاريخ الأمة العام والشامل يتطلب جمع المعلومات والوثائق الجزئية التي تخص كل إقليم على حدة.
ورغم هذا الاتجاه الاقليمي في تدوين التاريخ، فإن المختار لم يكن محدود الأفق كما أن موقفه هذا من التاريخ الاقليمي لا يكشف عن أدنى تزمت ولا تعصب –كما سبق أن أشرت إلى ذاك- لأنه فكر متفتح على العالم نظرا لازدواجيته الثقافية واللغوية، يعرف تمــــام المعرفة ما يستفاد من مقارنة الثقافات والنظر والقيم الحضارية المختلفة وهذه ميزة يكاد ينفرد بين زملائه أبناء جيله باستثناء من كان لهم حظ، وهم أصغر منه سنا في الاطلاع على لغة غربية أعطتهم نفس المؤهلات يضاف إلى هذا العامل تربيته ووعيه الوطني ثم نزعته السلفية التي كانت تتضمن أيضا التفتح على الثقافات الأجنبية ومسايرة العصر(3).
———————————————-
1) محمد خليل: محمد المختار السوسي دراسة لشخصيته وشعره ص 223.
2) محمد المختار السوسي: مقدمة المعسول.
3) مجلة دروس في الحركة السلمية بحث للاستاذ حميد التريكي ص 107.
لقد كان السوسي يؤمن بأن رسالته العلمية هذه يجب أن تقدم لباحث الغد أكبر قدر ممكن من المادة الخام ومؤمنا كذلك بأنه لا يجمع هذه المادة لنوع خاص من الباحثين ولا يسعى إلى إرضاء أذواق فئة معينة من القراء، ولهذا خاطب قارئ مؤلفاته بقوله: “فليعلم المطلع لهذا الكتاب (…) بأنه (…) سيكون كالداخل إلى السوق التي تجمع كل شيء فليأخذ ما يعجبه وليعرض عما لا يعجبه، فإن ما لا يجده إلا شيئا تافها إن كان لا يذوق حلاوته، قد يكون إزاء قارئ آخر لا يعجبه هو إلا ذلك.” (1) لأجل ذلك كانت مؤلفات السوسي متعددة ومتباينة وهي كلها تخدم منهجه في التأليف.
لم يغفل السوسي ما كتبه أسلافه مما له علاقة بتأليفه بل رجع إلى عدة مصادر فاستعان بها في تطعيم مؤلفاته الشيء الذي مكنه من كتابة خمسين جزءا في تاريخ سوس الأدبي والاجتماعي ومما يزيد من أهمية هذه الآثار أن المؤلف استقى كثيرا من موادها من أفواه الرجال وبطون الأوراق المنسية والتقييدات المهملة والواضح من هذه الآثار أنها دونت الشيء الكثير من أمجاد المغرب، وبطولات المغاربة في التاريخ المعاصر فكتابه ” المعسول” في جزئه الرابع يؤرخ لكفاح سوس ضد الاستعمار بقيادة الزعيم ” أحمد الهبة”، كما يتضمن الجزء السادس عشر صفحات من كفاح تافلالت، وفي الجزء العشرين توجد مذكرات القائد الناجح الخطابي الذي تولى القبض على أبي حمارة في عهد المولى عبد العزيز والمولى عبد الحفيظ، وقد ألف السوسي في هذا الكتاب في الفترة التي كان فيها منفيا بمسقط رأسه” الغ”.
كما نعثر في كتابه ” خلال جزولة” على لوائح طويلة للمخطوطات التي وقف عليها بعضها نادر جدا، ومما يزيد من أهمية بعض مؤلفاته، أنها تشمل على ملخصات واقعية لعدد من الآثار غير المطبوعة هذا زيادة على كثير من نصوص الأدب السوسي المعاصر وأدب المؤلف نفسه وفي كتابه” من أفواه الرجال” عرف السوسي بأنواع التقييدات والتأليف المأخوذة من أفواه الرجال بمنطقة “الغ” يقول في مقدمته ” كنت يوم
——————-
1) المعسول ج 1 (المقدمة ) ص (ج – د) لمحمد المختار السوسي.
التقتني زوبعة النفي في بسيط “الغ” أتطاول إلى شعل يحول بيني وبين الاسترسال في التفكير الذي هو مجلبة للهموم ومدعاة لنوازل الأسى …” (1)
وقد ذكر المؤلف في كتابه هذا عادات وتاريخ أهل المنطقة إلى جانب المرضوع الرئيسي الذي اهتم به وهو التاريخ لحياة والده الشيخ علي الدرقاوي وما قام له من أدوار طلائعية في سبيل اتباعه حقيقة الدين الإسلامي بين صفوة الطلاب، كما ترجم فيه لبعض أقطاب الطريقة الدرقاوية وغير ذلك كثير. ( وما المرس إلا ذكره ومآثره) كما يقول عبد الصمد بلكبير.
وهكذا فإن مؤلفات السوسي هي ليست أكثر من صورة عن شخصيته السلفية والوطنية وفي هذا المضمار يقول عنه محمد العثماني “ذلكم الزجل الذي أراد بعدما روض نفسه على فنون الأدب – أن يكون شاعرا فكأنه، ثم أراد – وقد أخذ بحظ وافر من علوم التشريع الإسلامي – أن بكون عالما فكأنه – ثم صمم في الأخير أن يكون مؤرخا فكأنه … إرادة صخرت من التخصص والمتخصصين وأكدت أن التخصص والسعي إلى غاية واحدة في ميدان المعرفة آية العجز والقدرة المحدودة” (2).
ومن خلال ما سبق، يمكننا أن نستخلص بأن نظرة السوسي للتاريخ هي نظرة شاملة من حيث المبدأ والموضوع، فيصبح ذلك المؤرخ الذي قضى حياته كلها في تدوين تاريخ إقليم معين، ينظر إلى هذا التاريخ كجزء من تاريخ أعم وأفيد هو تاريخ البشرية، ومعتمدة في ذلك أيضا نظريته الواسعة للإسلام –باعتبار تربيته السلفية- وله في هذا حديث “لا يدين بدين الإسلام الحق من يراها (تاريخ الشعوب الإسلامية) بعين الوطنية الضيقة التي هي من بقايا الاستعمار الغربي في الشرق –بل لو شئت أن أقول ويؤذنني ديني فيما أقول –أنني أرى الإنسانية جمعاء أسرة واحدة لا فضل فيها لعربي على عجمي إلا بالتقوى”(3).
——————————————-
1) محمد المختار السوسي: مقدمة من أفواه الرجال.
2) مجلة الكلمة س 1، عدد 1 ص: 25 بحث للأستاذ محمد العثماني.
3) دروس في الحركة السلفية: بحث للأستاذ عبد الصمد بلكبير ص 107.
خاتمـــــــــة
أود أن أسجل في ثنايا هذه الخاتمة استنتاجات وخلاصات لأفكار طالما عبر عنها المختار السوسي بطريقة أو بأخرى، هذه الأفكار تدور حول ما يأتي:
لقد كانت الإشكالية الجوهرية التي واجهت المفكرين العرب منذ بداية ما يسمى بعصر النهضة ووعيهم بالتأخر الحضاري من محاولة استرداد الهوية المفقودة والبحث عن أسباب تدارك هذا التأخر وتحقيق الانطلاقة التي كان يرغب فيها هؤلاء المفكرين.
وقد اتخذ التعبير عن هذه الإشكالية صورا متباينة عند المفكرين العرب والسوسي بدوره يطرح الإشكالية التي تواجه السؤال المحوري: كيف يمكن للعالم الإسلامي الخروج من ريقة الاستعمار؟ ونزع ستار الجهل والجمود والتخلف سياسيا واقتصاديا وفكريا واجتماعيا؟.
وبالتالي القضاء على ما يلحق الأمة الإسلامية من الخراب والدمار والفساد دينيا ووطنيا مع مسايرة الركب الحضاري.
والسوسي هنا يؤكد على ضرورة اتخاذ السلف الصالح شعارا، وذلك بالرجوع إلى صفاءه الأول، كما تمثلت في القرآن الكريم وسنة الرسول والخلفاء الراشدين.
إلا أن الذي يمكن استنتاجه من هذه الحركة هو أن الحركة السلفية لم تكن أول مظهر من مظاهر وجود هذا النمط من التفكير في تاريخ الفكر العربي الإسلامي بل إنه ليمكن القول أن هذا الفكر عاش مثل هذه اللحظة منذ العصر العباسي الأول، فالتاريخ الحقيقي لحركة تستهدف تجديد المجتمع من خلال تجديد فكره الديني وسلوكه التربوي يجب أن يرجع القهقرى إلى ما قبل القرن التاسع عشر. ومن أهم مميزات هذا التاريخ ظاهرة تطوره العكسي، حيث كلما تقدمنا معه في الزمن لاحظنا تأخره على صعيد المبادئ والأفكار والمواقف.
أما فيما يخص قضايا الفكر السلفي فقد اشتركت هذه الحركة عموما بالرغم من تنوع أقطابها ومن اختلاف مراحلها في العناية والاهتمام بنفس القضايا والإشكالات تقريبا، مقدمة في نفس الوقت حلولا متقاربة، ومن أهم ذلك الرجوع والاهتمام عموما بالماضي التاريخي الفكري والحضاري للأمة والملة العربية الإسلامية، ولكنها لم تعد إلى ذلك الماضي على اطلاقه أو بطريقة موضوعية بل إنها انتقت منه صورة المضيئة ولحظاته البارزة.
ودعت السلفية بصفة عامة إلى العقل بمفهومها الخاص له واستعملته آداتها في فهم الدين، ومقياسها الخاص لقرائته وتأويله وكذا تقويم التراث العربي الإسلامي عموما مع إعادة تنظيمه وتشكيله.
والسلفية حاولت عموما، وفي الشرق خصوصا أن تقف من الحياة السياسية موقفا محايدا، ومن السلطة موقفا مهادنا حتى ولو كانت سلطة أجنبية استعمارية، موجهة جل اهتماماتها نحو إصلاح ما اعتبرته تناقضها الرئيسي وما ولت إلى جانب ذلك أن تكون لها رؤيا ذات طابع شمولي، فكل القادة السلفيين شملوا بنظراتهم مواقفهم من الكون ومن الحياة ومن الفكر والإنسان والمجتمع.
وأخيرا يمكن القول بأن الحركة السلفية لا تعني فقط إحياء الماضي وبعثه من جديد، وإنما هي استعادة العرب بمكانتهم التي سبقت لهم أن احتلوها في العصور الغابرة، هذه الحركة تهم العرب جميعا، وهي ثابتة في اللغة العربية وآدابها، والتاريخ العربي ومؤلفاته، وتتحدد أولا بمستوى الحضارة العربية في الماضي، وثانيا بمواجهة الغرب الاستعماري، بالإضافة إلى ما تطمع إليه من التحرير والانعتاق والتنمية وهي تلتقي عندهم واحد في ذهنية العرب المسلمين، وتجمع كلها في مفهومي اليقظة والانبعاث.
وهكذا إذا كانت حركة السوسي قد حظيت ببعض البريق لدى بعض الدارسين والمهتمين بالفكر الإسلامي، فإنها لم تسلم من هفوات ولم تخل من ثغرات تجلت فيما أخذه بعض النقاد والباحثين.
وهكذا إذن، أتيت على ختام هذه المحاولة التي أرجو أن تكون قد وصلت بي إلى تحقيق ولو بعض مما كنت آمله منذ أن بدأت العمل في هذا البحث.
وأملي أن يكون هذا العمل عند حسن ظن القارئ لعله يزيده حماسا وتشجيعا وإقداما على اقتحام جوانب أخرى في نفس الموضوع متجاوزا عني أخطائي، ومستدركا علي ما فاتني، لعلنا نفيد كما استفدنا من غيرنا فإن كنت وفقت في عملي هذا، فذلك ما سعيت إليه بمشيئة الله وإن كنت أخفقت فالكمال لله، ومن لا يخطئ لا يصيب والله الموفق للصواب.
*************************************************
هدا الجزء مأخود من بحث: دعاة الحركة السلفية بالمغرب المختار السوسي نمودج _من الصفحة 32 إلى الصفحة 63