كلمة الأستاذ محمد كوثر الروداني (الحلقة 13 من الندوة)

Home / المقالات / كلمة الأستاذ محمد كوثر الروداني (الحلقة 13 من الندوة)
كلمة الأستاذ محمد كوثر الروداني (الحلقة 13 من الندوة)

المملكة المغربية

رابطة علماء المغرب

فرع إقليم تزنيت


كلمة الأستاذ محمد بن عبد الله كوثر الروداني

تزنيت 10 و 11 شعبان 1402

الموافق 3 و4 يونيو 1982

–        سعادة العامل،

–        سادتي النواب،

–        سادتي العلماء،

–        حضرات الأفاضل،

السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته،

فقد انتدبني أخونا الأستاذ الجليل الألمعي رئيس المجلس العلمي هنا السيد الحسين وكاك بأن أتشرف بمشاركتكم أداء بعض الواجب في هذه الندوة المختارية حول الذكرى الإعترافية للفضل الكبير الذي لا يحده استقصاء والأيادي البيضاء التي لا عد لها ولا إحصاء مما أسداه لهذه البلاد شيخا العلامة المسلم الوطني المخلص المعلم الحر الأبيُّ سيدي محمد المختار السوسي تغمده الله برحمته وأحله عالي جنته، وقد أشار علي في رسالة أصر على فيها أن أجعل موضوع مشاركتي هو الناحية الروحية في حياة محمد المختار السوسي فسهل علي الأمر وصعبه في آن واحد. سهله لأن أوسع نواحي الأستاذ المختار وأخصبها هو الناحية الروحية وصعبه لقصوري عن الإحاطة بهذه الناحية وعن الغوص فيها في آثاره القيمة وسيرته المعجزة ثم

لم يمنحني من المهلة ما ألم فيه شعت فكري وأجمع فيه شتات أمري وكلفني شططا إذ جعلني كما قال الشاعر.

 

لقـد وجـدت مكان القول ذا سعة

***

فإن وجدت لسانا قـائلا فقـلـي

 

فكل ما في الأستاذ المختار السوسي روحي لطيف لا يمث بصفة إلى أي مادي كثير ومن عاشره في حياته أو درس آثاره بعد مماته عرف روحيته وأريحيته. بالإبتسام يكسو محياه والإستبشار والهلل بنيران جبينه وخدمة الصالح العام تملك عليه شعوره، ونفاذ البصيرة يكاد يطلعه على أسرار الغيوب والإنصاف والإيثار والتواضع تحله سويداء القلوب فقد جمع كل الفضائل الإنسانية والأخلاق الفاضلة حتى أن مناحيه الخلقية تتداعى في النفس فلا يدري الإنسان أيها يقدم وأيها يؤخر، كل ذلك على حدة من الناحية العلمية والناحية الدينية البارزتين فيه صارتا علما عليه. أما ناحيته الدينية، فالباقون ممن عاشروه أطال الله أعمارهم يقصون العجب من استقامة، وأما ناحيته العلمية فهاهي ذي كتبه بين أيدي الناس تريهم كل موقف معجب وكل معجز مطرب وأعجب من ذلك كله سخاؤه وجوده وعدم إقامة أي وزن للمال على قلته بيده، فهو الفقير الذي يتحدى الفقر وهو المتقشف المعتز بتقشفه وهو الواثق بما عند ربه المتوكل عليه (ومن يق شح نفسه فؤلائك هم المفلحون) وأعجب ما يتعجب فيه العارف بأحوال المختار السوسي في حياته ومماته هو هذا  الابتهال الذي ابتهله به الناس حيا وميتا وهذه لحيرة حاروها في أمره ولما تمض على فقدانه من بيننا عشرون سنة بعد حتى ترى ما على السماء عليه أو التناقص منه من عرفه ومن لم يعرفه، وكأن طبيعتي تشعرني بشيء من ذلك في شأنه وكنت أتجنب عن قصد قراءة ما ينشر عنه لأنه إذا قيلت عنه الحقيقة فأنا أعرف الناس بها، وإذا قيل عنه الباطل فلا حاجة لي به ولأني أتخيل أن بعض الذي يكتبون عنه ولا يعرفونه أو يعرفونه ولم ينفدوا إلى باطن أمره إنما هم كما يحكى عن العمي حين لمسوا الفيل إذ لمس كل واحد الناحية التي تليه فراح يصف الفيل على انه كله الناحية التي لمسها فيه فمن قائل أنه سلفي وراح يطبل ويرمز عنه من هذه الناحية وجعلوا اعترافهم بالجميل لأستاذيه شيخي الجماعة أبي شعيب عبد الرحمان الدكالي، ومحمد بن العربي العلوي الفيلالي في تنوير فكره وتوسيع أفقه، جعلوا ذلك حجة عليه لاسبقية الخرافة والقصور الذهني وحاشاه من ذلك، ومنهم من استغل تصريحاته في محادثاته وكتاباته بالتبرء من السياسة وإعلان التفرغ للعلم فابعدوه عن الوطنية والعمل في حقولها وميادينها على اختلاف مظاهرها، غالب القائلين بهذا، من لا يعرفونه أومن عرفوه ولكنهم لا يستطيعون مخالطته اتقاء لما عسى أن يصيبهم في سبيله في وقت كان المعروف فيه مؤاخذة البريئ بذنب الجاني لأقل اتصال وأدنى اتهام. ومنهم من جعل سلفيته تبرر التصوف والطرقية ولو كانت جزولية شادلية جنيدية وحاشاه من ذلك وان من هؤلاء من لا يعرف فيه سلفية ولا صوفية فضلا عن أن يميز بينهما، فربما كان مهنم من لا يقوم حتى بأداء الصلوت الخمس الموقوتة على المؤمنين فكانوا كالسائلين عن دم وهم ملطخون بدم سيد الشهداء الحسن ابن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما.

والحقيقة انه سلفي ولكن ليس في ما يخالف جوهر الدين ومنهم من تخيل القيام بشؤون الطلبة كالمدرسة التي تفتخر بأن حافظ لها على اسمها الأصلي وهو الزاوية أنه ذو ثروة ومال، وأنه يقول انما أوتيته على علم عندي. والحقيقة أن ثروة الأستاذ المختار السوسي انما هي في قوة عزيمته ومتانة ثقته بالله وتوكله عليه ومتى فتح الله بشيء عليه أنشد. لا يألف الدرهم المضروب، لكن يمر علينا وهو منطلق وأتذكر هنا ما كنت قرأته في توارخ الملوك، ملوك الدولة السعدية لآن أحد الذين يتظاهرون في التصوف وخدمة المريدين جاء إلى أحد ملوك هذه الدولة وطلب منه أن يأذن له في الاستئثار بساقية عمومية كبرى، فقال له الملك، ولماذا تريدها فأجابه بأنه يريد أن يقيم عليها زاوية ومدرسة، فقال له الملك وهل زرت قط مشهد سيدي محمد بن يعقوب في (إمي نتلت) فقال الشيخ لا، فقال الملك اذهب لزيارته وعد إلي  لأعطيك الساقية، فلما ذهب لمشهد سيدي محمد بن يعقوب وجد فيه مدرسة وزاوية عامرتين قائمتين بدون ساقية ولا حرث إنما هما قائمتان بإذن الله وأمره، لأنهما مؤسستان على تقوى من الله ورضوان من عهد الشيخ سيدي محمد بن يعقوب، فعلم الشيخ مراد الملك فلم يرجع إليه، وعلى مثل هذه الحال أقام الأستاذ المختار السوسي مدرسته بزاوية والده بالرميلة بباب دكالة بمراكش، ينفق ما في الجيب فيأتي الله بما في الغيب، وهو غني دائما وفقير دائما بل انك لا تجده أبدا يتحدث عن الثورة والمال وإنما حديثه دائما في العلم والمجد والأخلاق الفاضلة وما يذكي الشجاعة في نفوس التلاميذ والطلبة، وهاهنا ولاشك من يعرفونه وإني أتحداهم بأن يباهوني إذا عرفوا عنه شيئا غير ذلك بل أنه لا يكون في شدة من الضيق المادي وتأتيه الهبات فَيَبْرَؤُ بنفسه عن أخذها ويردها على أصحابها إذا آنس منهم أنهم ممن يميلون إلى العدوة القصوى وربما عزف عن الأخذ حتى من أهل العدوة الدنيا وإني لأعرف لكل ذلك أمثلة لا أطيل بذكرها، وممن تناولوا الكتابة عنه من جعل كتاباته عن القطر السوسي وحده مظهرا للتعصب والعنصرية مع أن كتاباته مرتكزة على القطر السوسي  أساسا ثم هي لا تفتأ تتسع وتتناول غيره كل ما سبق إليها وللحديث شجون. وهو رحمة الله عليه كما تعرفون واسع المعرفة والاطلاع فكتاباته أشبه شيء بدائرة المعارف وأغرب من هؤلاء كلهم وأعظمهم مسؤولية بين يدي الخالق والمخلوق هم الذين جعلوا انتشاءه للعلم تهربا من المسؤولية السياسية، والقائلون بذلك أولالئك الفقراء إلى أخلص الأعمال لله، الأغنياء بالرغبة في الظهور والإعجاب وقد أصدرت أخيرا مجلة الإيمان للأستاذ الجليل المخلص سيدي أبي بكر القادري عددا خاصا بالأستاذ المختار السوسي وجدت فيه كثيرا مما ذكرته آنفا، اللهم إلا في قلة منه. والمعلن مبتدع وفي لطف التلميح مندوحة عن عنف التصريح ونسأل الله تعالى أن يجمع القلوب على الحق والصواب.

والحقيقة التي جعلت الناس يحتارون في أمر الأستاذ المختار السوسي ويهتدون به إلى هذا الحد هي أن ناحيته الروحية تهيمن وتسيطر على أفكاره وأعماله، وكل اتجاهاته، فالإخلاص لله تعالى في الحركات والسكنات والتصوف الصافي الذي جرى عليه السابقون الأولون من المسلمين وإن شئت فسم هذا التصوف السلفية، وأن شئت  فسمه إحسانا في الدين. وغير خاف أن الإحسان في الدين هو أن يؤدي الإنسان أعماله لله كأنه يراه فإن لم يكن يرى الله تعالى فإنه جازم بأن الله يراه تلك هي الروحانية المهيمنة على أعماله وبسببها أكرمه الله بالتوفيق والنجاح في كل وجهة يتجهها، ومن أبرز المظاهر الروحية التي هو موفق فيها أنه أول رجل عرفناه استطاع أن يملك زمام نفسه وعلى أن يقصرها على ما يريد منها فتنقاد وتتطبع، فقد عرفناه في أخريات شبابه جلدا قويا فاحم الشعرة صقيل البشرة نقي الثياب يتدفق خفة ونشاطا بل يرئن أحيانا كما يرئن المهر يترنم بمثل قول علي بن الجهم:

 

عيون المهابين الرصافة والجسـر

***

جلبنا الهوى من حيث أدري ولا أدري

 

وقول أبي فراس الحمداني:

 

نعم أنا مشتـاق وعنـدي لوعـة

***

ولكن مثلي لا يطـاع لـه سـر

بل يذهب إلى ابعد من ذلك فينشد قول من قال:

 

قـلـبـي وثــاب إلـى دا ودا

***

لا يـرى شـيـئــا فيـأبــاه

يهيـم بالـحسـن كمـا ينـبغـي

***

فـيـرحـم الـقيـم فـيـهـواه

           

وعنه حفظت هاذين البيتين الأخيرين حوالي البستان بحديقة مردوخ بالدار البيضاء ولكن كل ذلك لا يعدو أن يكون فيضا لكأس العلم والأدب والإشداء بالترويح عن النفس من هموم الحياة وابراز الشعر لاتساع أفق العلم والأدب كما كان يصدر عن الإمام بن حزم في طوق الحمامة وكما كان يصدر عن القاضي عبد الوهاب والقاضي عياض وكما كان يصدر عن ابن حجر وعن الشريف الراضي في قصيدة ليلة السفح وأدرى بها هؤلاء من رجال العفة والجلال والصون عن السفاسف والدنايا فقد بلغ من صيانة المختار السوسي أني ما سمعته قط قال كلمة نابيه حتى مع من ترتفع الكلمة بينه وبينه فالأستاذ التطواني ومصطفى بن مبارك الجالس معنا هنا والأستاذ الحمداوي. فقد روض نفسه على الصيانة والعفاف حتى صار في ذلك طبعا وجبلية حتى أنه كان يطرق بيوت أصدقاءه ولا يجدهم فيها فيتعسف ويقول هذا المختار افتحوا له فتنفتح الأبواب وتتستر ربات البيوت وراء المغالق فيتقدم هو إلى محل جلوسه غاضا طرفه فيتكئ وكتابه لا يفارقه فيطالع حتى يحضر رب البيت أو تأخذه سنة نوم فينام كأنه وحده في بيته لا يخطر بباله ولا ببال غيره أن يخدش وجه الصيانة والمروءة وقد يأتي رب البيت فيجده نائما فلا يزيد على أن يلقي عليه غطاء وأن يلزم أهل البيت بالسكوت حتى يستيقظ الأستاذ ومن المعروف عنه رحمه الله أن أي مؤذن لم يؤذن قط لأي صلاة من الصلوات الخمس حضرا أو سفرا الا وكان هو متوضأ متهيئا ينتظره. وأنه ينام بالليل مبكرا ويستيقظ قبل الفجر بكثير ثم لا ينام حتى تطلع الشمس وقد سألته مرة لماذا أدرك هذه الدرجة فقال لقد كان ذلك أول الأمر تكلفا فعالجناه حتى أصبح طبيعة فاسترحنا. وأقص هنا قصة عجيبة لم يشهدها أحد إلا أنا وهو، وذلك أننا كنا في الزاوية في أحد أعياد الأضحى وقد انفض الطلبة كلهم للعيد فلم يبق الا أنا وهو وابن عمه سيدي ابراهيم بن أحمد مؤسس مدارس بن كرير وكنا في مساء اليوم الذي قيل يوم عرفات، وكانت الحالة المالية متأزمة إلى غاية ما رأيته قط فيها فلا دانق ولا سحتوت فضلا عن الفرنك والريال. وقد جلسنا بين العشاءين معا يسود هو بعض كتبه فأخرجها من مسودتها إذ بالسيد عبد الحميد الرجراجي ابن ناظر الأحباس اذ ذاك بمراكش  سيدي الحاج محمد بن عبد الله الرجراجي الرباطي يدخل علينا وفي يده رقعة صغيرة فيها بعد فاتحتها، وبعد، فخذ من الولد ما بيده لتستعين به على ما أنت بصدده أعانك الله، أدع له فأخذ من الولد ما أتى به ووضعه تحت (الهيضورة) ودعا له بما أرضاه وخرج الولد. فلاحظت عليه بعض النشاط وكيف لا ينشط وقد أصبح ذا ثروة ومبلغها اثنان وعشرون ريال ونصف. ولكننا لم نلبث أن سمعنا صوتا يرتفع بالهيللة في صحن الزاوية على عادة الدرقاويين إذا تزاوروا فإذا به يطلع الدرج حتى يقف لنا صاحبه بباب الغرفة التي كنا فيها. فقال الأستاذ لماذا كل هذه الضجة التي أقمتها، أليس هناك بأس؟ فقال الواقف: أي بأس تريد أكثر من هذا. خمسة أولاد في الدار، وليلة العيد وليس فيها زيت ولا قمح ولا أضحية. أيوجد في الدنيا بأس أعظم من هذا؟ فقال له الأستاذ: سبحان الله لقد نفذ صبرك. ألا تعلم أنه لا يزال بيننا وبين العيد يوم الغد؟ أدخل. فدخل فأعطاه كل ما تحت (الهيضورة) برمته فانصرف. ورجعنا نحن إلى تخييم السكون والسكوت من جديد، وانتظار ما عند الله. وهل يستطيع أن يبلغ هذا المستوى من الاطمئنان والرضا بما قسم الله وأن يكثر على نفسه كل هذا الإيثار، إلا من غلبت روحانيته ماديته ووثق بأن الله تعالى عنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو. وليست وطنيته الصحيحة المكينة إلا مظهرا من مظاهره الروحية الدينية. فهو ألف التصوف الصافية والطريقة الدرقاوية الجزولية الشادلية السنية. وهو أحد من أولائك الموفقين الأولين، أقوياء العزم الذين لم تدفعهم إلى الوطنية رغبة في تحصيل مصالح أو تبوء مناصب. وإنما دفعه امتثال أمر الله بالجهاد في سبيله ليحارب أعداء الله في بلاد الإسلام. وذلك بدافع ما تشبع به من دراسة كتاب الله في بيوت الله وسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيرة أصحابه الذين رباهم عليه الصلاة والسلام بما أوحاه الله إليه، وغالب رفاقه في ذلك كانوا من هذا القبيل. فالناس معادن كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام. فالأستاذ المرحوم الذي يعجز لساني أن أجد له وصفا يليق به لما عرفته وخبرته فيه، والأستاذ سيدي محمد الغازي المكناسي وهو صاحب الرقم القياسي في السلفية والسنة رحمه الله ليس سوى ابن أسرة تابعة للزاوية العيساوية الجزولية الشاذلية بمكناس والمرحوم الأستاذ علال الفاسي نفسه الذي لا يشك أحد في سلفيته إنما هو من سلالة الزاوية المحاسنية المجدوبية الجزولية. أنحكم له بالاستقامة والإهتداء وصحة العقيدة ونحكم على آبائه وأجداده بالضلال والغواية وهم الهادون المهتدون؟ ذلك ما لا يقول به عاقل. وهل السلفية إلا إحياء السنة ومحاربة البدعة؟ وذلك ما قام عليه الصوفية. وقديما قال أبو العباس أحمد بن عمرو المرسي تلميذ الشيخ أبي الحسن الشاذلي وخليفته من بعده: من حلف بالطلاق إنما نحل عليه هو ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، لم تطلق عليه زوجته لأنه حلف على صدق.

فالوطنية المختارية لا تنافي الدين الإسلامي الصحيح بل إن الإسلام يدعو إلى ذلك النوع منها ويعده من أكبر مقاصده بشرط أن لا تكون عنصرية ضيقة تتعصب لطائفة من المسلمين ضد الأخرى في أي قطر من أقطارهم فتفرق وتشتت وتبث الحزازات. فإنما المؤمنون إخوة ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال أنني من المسلمين “قرآن”. فهذا هو مبدأ الأستاذ محمد المختار السوسي في الوطنية. فإذا جردناه منها وأضفينا عليه أردية العلم بكافة فروعه وشعبه، أفلم يكن في عصره كفيل من العلماء والمؤرخين؟ فلم خصه المستعمرون إذا ذاك من بينهم بالتضييق والتتبع أولا، ثم النفي والحصار ثانيا، ولعدة أعوام والأخرون يمرحون في الحرية والتسلي بالحياة. ثم أليس دفاع الوطنيين عنه كما كان منفيا، دليلا على الوطنية السياسية البارزة. وما ينشرون عنه في صحفهم في الداخل والخارج إنما هو تزكية للوطنية الصادقة. والتمسك بالوطنية الصادقة ألم يقتنع المروجون بعدم وطنيته بالتقديم الذي قدمه به المكافحان الجليلان المرحوم السيد الحاج عمر بن عبد الجليل رحمه الله وسيدي محمد اليزيدي حفظه الله إلى الجينرال “لوكيس” ممثل فرنسا العام بالمغرب عند التسريح من منفاه الأول؟

ألم تتهيأ له الفرص النادرة لاكتساب المال وغيره من الفرنسيين فرفض التي من الفرنسيين لدينه ووطنيته. واتقاء لربه رفض التي من غيرهم عزوفا بهمته القعساء عن الخنوع والخضوع لليأس. وأن عددا ممن رفض هباتهم هم من الهيئات السياسية والأفراد ونقل العز من قمم الجبال أهون على ذوي النفوس العالية من منن الرجال. نادى مرة أحد خواصه من الطلبة وخرج به من الزاوية فصعدا معا عربة “كوتشي” وطلب من سائقها الاتجاه إلى دار الزنيبر أي المركز الرئيسي للإدارة الفرنسية بمراكش وأقصى نواحيها يترأسها جنيرال. فلما بلغاها قال للطالب أن هؤلاء قد استدعوني، ولا أدري لماذا فانتظرني حتى أخرج. وبعد مدة خرج وعليه أثر الفوز والانتصار. وقال للطالب إنهم أخبروني بأن الحكومة تعرض على ما اختاره من الوظائف الرسمية فاعتذرت لهم بأن الوظيفة التي أحسنها والتي وجدت عليها أهلي هي تعليم الدين وها أنذا فيه، فلا حاجة لي بغير ذلك. وكان لما دخل، وجد في قاعة الانتظار جماعة من المتناورين المتفتحين من علماء مراكش، وقدمه المستعمرون هو بالاستقبال. فلما خرج، بعدما استقبله الجنيرال، وأراد الذهاب، عرج على قاعة الانتظار وأخبر من فيها بما وقع وحذرهم عاقبة ما يراد بهم. فكان كل من استقبل يجيب بالرفض. ولذلك، فإنهم سيذهبون إلى السجن كلهم بعد نفي الأستاذ المختار بقليل. ومع إعلانه رحمه الله لاجتنابه للسياسة ظاهرا، فإن الفرنسيين، الذين يرمى من وراء ذلك إلى تغفيلهم وتحذيرهم، لم يتحذروا ولم يستغفلوا. فوطنيته رحمه الله لم تكن لاستيراد السمعة أو المال أو المناصب. فالسمعة ان كانت هي اتصال الذكر فقد سلطه الله عليه حيا أوميتا، أحب أم كره. والمال علمنا كيف كان يتحاشاه لأدنى شبهة بل ويبدد منه ما دخل يده. والمناصب رأينا كيف خطبها فتركها إذ كان غيره يبكي أن تركته. ولما سمعنا في الإذاعة توليه وزارة الأوقاف بعد الاستقلال، ذهبت لأهنئه بها كما جرت بها عادة الناس، وان كنا نحن معشر السوسيين لم نتعود ذلك، فقلت له جئت أهنئ بك الوزارة فأنت عندنا أعظم منها. فقال رحمه الله:  هكذا أراد الله ولا يسعني أن أرد لجلالة الملك أمرا. يعني في ضمن كلامه، ولو أنها أمر من غير جلالة الملك لكان يسعني أن أردها. وتعليمه لطلبته لا يعني العلم وحده بل يعني التوجيه والرمز ولفت الانتباه إلى جميع أنواع العز والمجد وإذكاء الشجاعة السياسية. ودينيا يلقي بالجملة أو البيت من الشعر فيفهم منها السامع العادي معناها الظاهر ولكن أسلوب إلقائه يجعل المعني بها يفهم المعنى السياسي الضمني. يذكي به حماسه ووطنيته ويلهب اندفاعه ويقوي شجاعته. فلنأخذ مثلا بعض أبيات كان يتمثل بها وما أكثر ما كان يتمثل بأبيات ظاهرها الاستسلام وباطنها الثوران فمنها قول مجنون ليلى:

 

وماذا عسى الواشين أن يتحدثـوا

***

سوى أننتي من حب ليلـى متيـم

            

فظاهره أن الواشين لا يشيعون عليه أكثر من كونه متيم بحب ليلى، وهو لا يرى بذلك عيبا. ولكن المختار السوسي يتمثل به في معرض كون وشاته لا يشيعون عليه أكثر من أنه وطني مجاهد يعمل لصالح بلاده. يقولون ذلك وهو يراه شرفا واعتزازا ويتمثل كذلك بقول ابن سهل:

 

أشـاعـوا أنـي عبـد لموسـى

***

نعم صدقوا علي بمـا أشـاعـوا

 

وهذا ظاهر التلميح بالمراد. كما أنه كثيرا ما يستشهد بقول أحمد بن ناشد:

 

سأغسل عني العار بالسيف جالبـا

***

علي قضاء الله ما كـان جـالبـا

 

ومعناه الظاهر هو أن الشاعر سيقاتل لمحو ما لحقه من عار من ما جرت عادة العرب أن يعدوه عارا كالثأر وهتك العرض وغير ذلك ولكن هو يرمز به إلى الله. سيظل في موقفه مناضلا من أجل غسل عار الاستعمار عن بلاده ولو أصابه في ذلك ما عسى أن يصيبه. فأي شاب مثقف متيقض متشبع بهذه الروح ثم لا ينزلق إلى المعمعة انزلاق السهم إلى مرماه ولا يكون كما قال مجنون ليلى:

 

أتاني هواه قبل أن أعرف الهـوى

***

فصادف قلبـا خـاليـا فتمكـن

 

هاهو ذا السيد الحاج الحسن أهمو المستوطن الآن بتارودانت كان يختبئ في الدار البيضاء مع الفدائيين أمثاله وكان الأستاذ المختار السوسي إذ ذاك لاجئا إليها من مراكش إبان الأزمة الاستقلالية متظاهرا بالوعظ وتعليم الدين في المساجد العامة. وكان يلفح المحتاجين من الفدائيين واللاجئين السياسيين بما تصل إليه يده من نفقات. فذات مرة طرق باب الحاج لحسن في إحدى الليالي وقام هذا الأخير ليقضي صلوات النهار، فسأله الأستاذ عن سبب تأخيرها، فاعتذر بالانهماك في الأعمال الوطنية، فقال له الأستاذ إنك إذا حاسبك الله على الأعمال الوطنية فسيحاسبك بين عشرين مليون من المغاربة أما الصلوات فسيحاسبك عليها وحدك إذا أخرجتها عن وقتها. فوجهه بذلك إلى الخير وأرشده إلى أداء ما فرضه الله عليه ولو أثناء القيام بالأعمال الوطنية. والله شرع صلاة الخوف ولم يشرع ترك الصلاة. ومن مظاهر شجاعته النادرة أو مغامراته الجريئة أنه لما نزح من مراكش لآخر مرة إلى الدار البيضاء وترك الباشا الحاج التهامي يتجرى عنه، وكان أهله ما يزالون بمراكش، عرض له ما أوجب طروق بيته، فدخل على أحد أصدقائه من تجار طريق مديونة، بعد العصر وصعد معه سيارة التاجر وأمر بالاتجاه نحو مديونة فوجهه إليها وكلما أراد أن يوقفها أمره بالتمادي حتى دخل مراكش ليلا، فاتجه الأستاذ إلى بيته وتواعد مع صاحب السيارة محلا ينتظره فيه وكان بسكن آخر الدرب الطويل الذي فيه الزاوية، ولم يتوجس أن يترصده هناك من يقبض عليه أو من يشي به، فقضى غرضه ورجع إلى صاحب السيارة ورجعا معا إلى الدار البيضاء. ولولا أنه واثق من أن عين الله تكلئه ما تجرأ هذه الجرأة وهو يعلم أنه يقول الشاعر:

 

كـأن بـلاد الله هـي فسيـحـة

***

على الخائف المطلوب كفة حـابل

 

ولكنه هو ليس بخائف، ومن مظاهر التدين والروحانية في الأستاذ المختار أنه كان مرة في إحدى الطرق المنزوية حول مدينة الرباط منهمكا في الكتابة، يستقل سيارته الوزارية الضخمة ولم يكن له قط مكتب خاص للكتابة بل يكتب كيف ما اتفق، وكذلك كتب كلما كتب. أقول كان يكتب في السيارة، فإذا بمسكينة عجوة تقصده وتستنجد به فاتجه إليها السائق ليصرفها، فقال له الأستاذ لا تفعل، فأخذ محفظته وأعطاها، وقال لها خذي أيتها السيدة المختارة من المختار الشلحي ولو شاء الله لعكس القضية فيجعلك أنت صاحبة السيارة المستطيلة كأنها درب وجعل المختار الشلحي هو الذي يمد إليك يده يسألك صدقة. فبهذا التواضع الحقيقي الذي لم يكن تصنعا أمام أحد ليتحدث به عن نفسه. والله تعالى رفع قدره وأحيا ذكره حيا وميتا. وما دمت مكلفا بالكتابة عن ناحيته الدينية أدون هنا حادثتين وقعتا له وهما مستمدتان من واقع الدين بل ومن القرآن العظيم. فإنكم تعلمون أن الله تعالى يقول: (قل ما يعبئ بكم ربي لولا دعاءكم) ويقول (ادعوني أستجب لكم) ويقول (وإذا سالك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعاني)، كما أنه لا يخفى علينا جميعا ما يعانيه المغرب من الجفاف والجذب حتى استولى الرعب على القلوب وأشفق الناس على معاشهم فألهم الله تعالى أمير المؤمنين جلالة الملك مولانا الحسن الثاني أن دعا إلى صلوات الاستسقاء في الحواضر والبوادي فأرسل الله رحمته على عباده.

 

لم لا أقول الشعـر كيـف أريـد

***

وأنـا بنيـران الشعـور وقـود

لـم لا أقـول وإننـي متملـمـل

***

في حيـن أن القـائليـن رقـود؟

وآتاهم السحر الحلال وما انتحـى

***

قلمـي أنـا إلا صفـا وحـديـد

فكري يجيش ومرقمي في أصبعي

***

لم لا يخط الشعـر كيـف أريـد

ما الشعر مـوزون بقـافيـة لـه

***

معنى بإسماع الجليـس سـديـد

                                                                  

                    

وهنا أقص عليكم ما ربما تستغربونه وهو أن الأستاذ المختار السوسي اشترى الوزارة بست ريالات وباع الحكم في مراكش بدلاحة.

وذلك أنه زاره صهره والد زوجته الصالح الصوفي سيدي ابراهيم بن صالح التازروالتي أحد قدماء مريدي والده الشيخ سيدي الحاج علي الدرقاوي وبينما هم يتحدثون بجرهم الحديث إلى الوظائف والمناصب وكلهم يستبعدون ذلك عن نفوسهم في بحبوحة وقت الاستعمار ولم يعلموا أنهم يرهصون عن المستقبل وقال له صهره اشتر مني الوزارة يا سيدي المختار وكان المختار لا يشك في ولاية صهره ولم تكن معه إلا ست ريالات فأعطاها له فدعا له بالوزارة وقد رأينا جميعا استجابة الدعاء.. والثانية أن الأستاذ المختار رحمه الله أصيب بالرمد لمدة ثلاثة أشهر متصلة فكان لا يكتب ولا يقرأ وكان طلبته يقرأون له دائما. وبينما هو في عشية صيف على سطح الزاوية في المساء وقد لف الأستاذ طرفا من عمامته على عينه وهو مستند إلى الحائط ينتظر صلاة المغرب ومعه بعض خواص طلبته ثم انظم إليهم الأستاذ المرحوم الذي تعرفونه كلكم سيدي الحسن البونعماني وكان يعرف بسيدي لحسن الشاعر فاشتهى الأستاذ الدلاحة وهو رخيص ولكن من أين يأتي بثمنه فقال من يشتري لنا دلاحة جيدة وندعو له بما أراد فانسل سيدي الحسن البونعماني واشترى دلاحة جيدة من حانوت قريبة من الزاوية ودخل بها إلى الزاوية وقطعها في صحن كبير وتركها تبترد، وطلع إلى الأستاذ على السطح فقال له الأستاذ إني لأشم رائحة الدلاح فقال له سي لحسن وهل للدلاح رائحة؟ ولكن بماذا ستدعون لمن سيأتيكم به؟ فقال له الأستاذ بما يريد فقال له البونعماني أتدعون لي بحكم مراكش وأنا كفيل لكم بالدلاح فقال له الأستاذ إن العلماء يقولون إن من شرط الدعاء أن يتعلق بالممكن وحكم مراكش في يد هذا الرجل المستبد فكيف نزيحه عنه ونعطيك إياه؟ فقال له البونعماني إذا كنتم أنتم الذين ستعطوني شيئا فأمسكوه عندكم وإذا كنتم ستسألون الله فإن قدرته لا يعجزها شيء وهي صالحة لكل شيء.

فقال له الأستاذ سندعو لك بما تريد، وليكن ما أراد الله فدعوا له وأتاهم بالدلاحة فأكلوها. وبعد عدة أعوام أي بعد الحرب العالمية الثانية أراد الفرنسيون أن يدروا الرماد في العيون بإصلاحات تافهة فكان من جملتها إحداث الحكام المسددين في المدن فكان الأستاذ البونعماني أول حاكم مسدد بمراكش. ولم يجرؤ قط الباشا الكلاوي أن يتدخل في أية قضية لما يعلم من أن جلالة المغفور له محمد الخامس طيب الله ثراه ممدود عليه ظله وأنه هو الذي اختاره لمراكش وهكذا استجاب الله دعاء قاصديه الصادقين ولم يخيب لهم أملا. فكيف تكون الروحانية الدينية إن لم تتق باستجابة الداعين إلى الله المعولين عليه الواقفين ببابه.

وهنا أذكر لكم أن أخانا الأستاذ الفاضل سيدي أحمد بن عبد الله العدوي حكى لي مرة أنه زار الأستاذ المختار السوسي في بيته في شارع السوسي بالدار البيضاء أيام الأزمة فوجده منشغلا بتهييء الغذاء لأضياف عنده أظهر الاهتمام بهم. قال فلم أرد أن أشغله عنهم وكان معهم في الطبقة الثانية من البيت، فدخلت بيتا في الطبقة السفلى كان الأستاذ يجلس فيه الطلبة وهو لا يعلم بمكاني والأستاذ واقف على رأس الدرج ينتظر من يأتي بالخبز من الفرن فإذا بابن أخته الشاب سيدي أحمد بن صالح المستوطن الآن بإنزكان يصعد الدرج منذلقا نشيطا غير مكترث. فقال له الأستاذ ألم تأت بالخبز ووكزه وكزة شديدة (قال الأستاذ العدوي ظننت أن صدره انفلق منها) ولكن الفتى لم يبال بها وانحدر مع الدرج فإذا بالمختار السوسي يندم على ما فرط منه فيجس على قدميه إلى الحائط وهو يعاتب نفسه عما صدر منه ويردد قول الله تعالى (إن تريد إلا أن تكون جبارا في الأرض وما تريد أن تكون من المصلحين) ويكررها فلما عاد الفتى بالخبز جعل يتحبب إليه ويستسمحه وهذا من مظاهر عظمة الأستاذ المختار السوسي ومظاهر تمسكه بالدين وأخلاق الدين في جميع أحواله ما ظهر منها وما بطن من محاسبة النفس عن الأنفاس وصيانتها من نفثات الوسواس الخناس. 

وإذا كنت قد أسأمتكم بطول هذا الهراء الذي أهرفه فلا تلوموني ولوموا أنفسكم أنتم الذين طلبتم إلي التحدث إليكم في موضوع من أحب المواضيع إلي وأن الحديث عن الحبيب حبيب. ولي في هذا الموضوع وغيره عن الأستاذ المختار السوسي لأكثر مما قلته وبودي أن لو تيسر لي وضع مجلد خاص عنه وما ذلك على الله بعزيز. ويرحم الله أبا العلاء المعري إذ يقول:

 

جمال ذي الأرض كانوا في الحياة وهم

***

بعد الممات جمال الكتب والسيـر

وإنـمـا المـرء حـديـث بعـده

***

فكن حديثـا حسنـا لمـن وعـى

 

والسلام عليكم ورحمة الله