مع المختار السوسي في مشيخته..؟

Home / المقالات / مع المختار السوسي في مشيخته..؟
مع المختار السوسي في مشيخته..؟

مع المرحوم العلامة محمد المختار السوسي في مشيخته..؟

لا يزال الأخ الأستاذ عبد الوافي رضى الله ابن المرحوم العلامة محمد المختار السوسي يواصل نشر تراث والده وقد أتحف المكتبة المغربية بكتاب قيم جديد بتقديم الأستاذ العلامة الدكتور عباس الجراري.

 والكتاب يتضمن مجموعة من تراجم الشيوخ والأساتذة الحضاريين اللذين تلقى عنهم المرحوم العلم في مراكش وفاس والرباط.

 والكتاب ليس كتاب تراجم من صنف ولد ومات ولكنه كتاب يضم زادا مهما من العلم والمعرفة بجانب التعريف لأولئك الشيوخ.

 وقد رأيت من المفيد تقديم الكتاب لقراء حديث الجمعة في السطور التالية:

 المشيخة أو الفهرسة أو البرنامج أسماء تكاد تكون اسما لمسمى واحد وهو الحديث عن المنهاج الدراسي، والأساتذة الذين يتولون تقديم هذا المنهاج في شكل دروس أو إجازة أو غيرها من الأساليب التي كانت متداولة عند أصحابها، وقد كان القدماء يفاخرون بالشيوخ الذين تلقوا منهم أو عنهم الدروس العلمية ويورثون ذلك لأبنائهم فيكون ذلك مدعاة لتقدير المتلقي وتقدير أستاذه الذي لقنه ما لقنه أو أجازه ما أجازه.

 وقد اعتنى الباحثون العاصرون والدارسون بهذا الصنف من التأليف كما اعتنى به الأقدمون لمعرفة مدى صحة الرواية التي يعتمدونها، وفي هذا المعنى قال الحسن آيت بلعيد في تحقيقه لمعجم شيوخ تاج الدين السبكي: كان العلماء يلتزمون أسلوب الأستاذ في النقل من الكتب في معظم تصانيفهم ويحرص الطلاب على ذلك ويهتمون به اهتماما شديدا ويستعينون بشيوخهم حضورا لمجالسهم، وسماعا لدروسهم، وكتابة لا ماليهم وقراءة للكتب عليهم تبركا وتعلما وتدريسا رغبة في الاستنكار من الشيوخ والروايات، والكتب المروية والتفنن في الحصول على نوادر المؤلفات وعلى عوالي الأسانيد بطرق الرواية من سماع وقراءة، وغيرها (ص57) تم تحدث عن أنواعها وهي:  البرنامج الثبت، المشيخة ، الفهرسة والمعجم

 

 ما هي المشيخة؟

 والمشيخة تطلق عند أهل الفن على الكراريس التي يجمع فيها المحدث شيوخة بترتيب يخالف حروف المعجم قال ابن حجر والمشيخات في معنى المعاجم إلا أن المعاجم ترتب المشايخ فيها على حروف المعجم بأسمائهم بخلاف المشيخات (ص58).

 ومن العلماء المشهورين المغاربة الذين تركوا فهرسة قيمة ومهمة القاضي عياض في كتابه: (الغنية) وعنها قال المقري في (أزهار الرياض)

 غنية القاضي عياض غنية عما سواها

 حلة موشيـــــــــة بــــل روضـــة طــاب جناهـــا

 جمعت أعلام علـــــم قدرهم ما إن يضاهى

 وحكت أخبار قــــوم عنهم العــــدل رواهـــــا

 وكفاها بابن رشــــــد شرفــــــا زاد سناهـــــــا

 كم بها من معلوات مبهجــــــــــات مــن رآها

 فعليه وعليــــــــــــهـم رحمـــة لا تتنــــــاهــــــــى

 وقد كان المرحوم المختار السوسي يعتز بتلقينه العلم عن أساتذة كانوا هم أعمدة النهضة العلمية والوطنية، وقد سجل في كتابه المعسول عددا مهما من العلماء والمفكرين والأدباء في الأصقاع السوسية كما سجل آخرين في الالغيات وفي (خلال جزولة) ولم يخل كتاب من كتبه عن الحديث عن أصدقاء الدراسة من الطلبة والعلماء، والأساتذة والشيوخ والاعتراف بمكانتهم العلمية وفضلهم عليه إذا كانوا من الذين استفاد منهم أو استفاد بمعيتهم من شيخ مشترك أو أستاذ مشترك فتكاد مؤلفاته في الواقع تكون أجزاء من موسوعة علمية تضم أسماء الرجال ومؤلفاتهم وآثارهم كما تضم قضايا علمية وأدبية وفقهية كان له شرف المساهمة فيها أو فضل الإبراز والحديث عنها ولذلك فكلما صدر كتاب من كتبه كان صدوره فتحا في باب المعرفة والثقافة وتنوير الأذهان والأفكار.

 وإذا كان الاهتمام الذي امتاز به وهو عنايته بتسجيل مواقف العلماء وتراجمهم مما قل أو كاد ينعدم في حياتنا الثقافية اليوم، فإن الله قد عوض لهذا الرجل بابنه الذي انتدبته العائلة وآل على نفسه الاهتمام بتراث والده ينشر منه ما يمكنه نشره بين الناس مع قلة الوسائل وانعدام المساعدة ولكنه مع ذلك يبذل من الجهد أقصاه تدفعه غيرة علمية استمدها من والده، وحب لهذا الوالد ولتراثه فكان منه هذا العمل الذي يطالعنا بين الفنة والأخرى بإصدار كتاب أو بحث أو رسالة أو مقالة من تراث الوالد.

 وقد سبق لي تناول السيرة الذاتية لوالده المرحوم محمد المختار السوسي واليوم يخرج علينا بزاد جديد من زاد المعرفة لوالده وذلك بنشر كتاب (مشيخة الالغيين من الحضريين) أو تراجم أساتذة والده الحضريين وهو العنوان الأصح اللهم إلا إذا كان الشيخ المختار رحمه الله الذي تلقى العلم عن هؤلاء الشيوخ بحكم أستاذيته للالغيين قد أمد هؤلاء جميعا بفيض من العلم والمعرفة التي تلقاها عن هؤلاء الشيوخ. وهذا هو الملحوظ عنده ولاشك في العنوان الذي وضعه للكتاب ويوضح هذا ما أورده ابنه في المقدمة التي وضعها للكتاب نقلا عن والده في المعسول حيث يقول:

 الكتاب فصل من المعسول

 إن هذا الكتاب الذي بين يديك الآن أيها القارئ الكريم » مشيخة الإلغيين من الحضريين« هو جزء كان في الأصل ضمن الفصل الثاني من القسم الثالث من صيغته »المعسول« في صيغة الأولى، وسنذكر لك الآن كيف كانت هذه الصيغة الأولى عند كتابته، حسب ما كتب ذلك مؤلفه في مخطوطه الأولي:

فافتتحت التاريخ الإلغي وسميته »المعسول« مرتبا على خمسة أقسام، ويستمد كثيرا من »الفتح« [من أفواه الرجال ] وإن كان »الفتح« لا يزال ذا فائدة انفرد بها، وهذه هي الأقسام

 ـ الأول : في الإلغيين ءال المؤلف

 ـ الثاني : في الإلغيين الآخرين .

 ـ الثالث : في أشياخهم في التصوف والعلوم

 ـ الرابع : في تلاميذهم في العلوم والتصوف .

 ـ الخامس: في الذين بينهم وبين الإلغيين صلة ما.

 هكذا رُسم الكتاب…. وقد تم الآن من الكتاب مجلدات ثلاثة، إستوفت الأقسام الثلاثة بتمامها … وقد يكون الكتاب في خمس مجلدات ضخام أوست في نحو 150 كراسا كبيرا، فيه عشرون صفحة، وفي كل صفحة نحو ثلاثين سطرا، بخط غير مُدْمج غالبا، والله الموفق ، ونرجو أن يسد فراغا كبيرا في تاريخ السوسيين… إلغ قبل الغروب 25/4/1358هـ )).(ص8)

المختار والذاكرة الواعية

 وقد رأيت من باب الإفادة والاستفادة ان أقدم تعريفا بهذا الكتاب وان شئت الدقة قلت الإشارة إلى بعض الشخصيات التي حواها الكتاب وهي شخصيات ليست من الشخصيات العادية او التي يمكن الإلمام بها وبمكانتها العلمية والدينية المامة الكاتب الشيخ المختار فالرجل قد تمرس بالكتابة حول الرجال كما كانت له دقة الملاحظة وتسجيلها في حينها اما في قرطاس أو في ذاكرة واعية سيستقر فيها كل ما يمر بصاحبها وعندما يناديها تتجاوب معه في الحين وتواتيه وفق ما يريد.

 يقول الأستاذ الدكتور العلامة عباس الجراري في تقديمه الرائع للكتاب »ولعل في طليعة العلماء الذين تاقت نفسهم لتنمية معارفهم وتلقيح ما كانوا تلقوه في بيئاتهم من علوم فسعوا إلى ذلك جادين جاهدين مؤلف هذا السفر الجليل العلامة الأديب المرحوم محمد المختار السوسي الذي يعتبر أحد أعلام المغرب ونوابغه البارزين خلال النصف الأول من القرن العشرين« ولم يخل التقديم من توجيه أو ملاحظة فيما كان ينبغي ان يكون عليه إخراج الكتاب ولعل أن يشفع للابن البار الأستاذ عبد الوافي الذي هيأ الكتاب للطبع ان تأخير الطبع إلى حين توفير شروط ومستلزمات قد يحجب عن الناس الاطلاع على ما جاء في هذا الكتاب القيم والهام في بابه أكثر مما مضى فهو منذ عشرين سنة وهو يبحث عن وسيلة أو طريقة يتم بها تقديم الكتاب إلى الناس.

 والواقع ان نشر الكتاب بين المثقفين والمهتمين يلقي الكثير من الأضواء على الحياة الثقافية والفكرية ومناهج الدراسة وتناول مختلف فروع العلم والفنون في بداية القرن العشرين وهو في نفس الوقت يطلع القارئ على السادة العلماء في ذلك العهد ومؤهلات كل واحد منهم في تدريس العلوم والقدرة على الفهم والتفهيم فليس الكتاب مجرد كتاب لتدوين تراجم الرجال وحياتهم العلمية، ولكن التراجم تناول فيها أمورا تكاد تكون من خصوصيات الشخصيات المترجم لها.

 منهج وملاحظات

 والكتاب في نظري اعتمد المؤلف في وضعه على منهج يتسم:

 1 _ بالمعاشرة والتلقي المباشر من المترجم له فهو يتحدث عن اللقاء الذي تم بينه وبين المترجم وأين تلقى عنه والدروس أو المتون التي تلقاها على يديه، وكذلك الباب أو الأبواب أو الفصل أو الفصول من كتاب معين. وهو في أثناء ذلك يتحدث عن أسلوب ومنهاج الأستاذ الذي يترجم له مقارنا بينه وبين غيره من الأساتذة الآخرين.

 2 _ الرواية فهو في بعض الأحيان عندما يتحدث عن شيخ من الشيوخ يعتمد الرواية في جزئية من الجزئيات فهو تارة بلغه أو قيل له أو يتحدث به وكل ذلك يرويه وهو غير مجزم بما يروي.

 3 _ التدقيق فيما يسمع وما يلقي إليه وهو لا يتلقى ويصمت ولكنه يناقش ويجادل فيما يلقي إليه نلاحظ ذلك في النقاش الذي جرى بينه وبين الشيوخ بن العربي العلوي والسائح وغيرهما من الأساتذة.

 4 _ وإذا كان ليس مسجلا فقط لما يلقي اليه وما يسمع فقد كان دقيق الملاحظة صارما في أحكامه التي يصدرها أثناء العرض والحديث عن شيخ من الشيوخ الذي ربما جره الحديث الى النظر الى أمر فرضه السياق وان لم يكن مقصودا

 5 _ رغم الأحكام فهو يتجاوز ويلتمس الأعذار.

 أبو شعيب الدكالي

 والكتاب يضم حوالي سبعة وعشرين ترجمة ابتدأها بالحديث عن الشيخ ابي شعيب الدكالي وواضح منذ البداية أن المؤلف ليس محايدا في ترجمة هذا الشيخ الوقور فهو يستهل الترجمة ببيتين من الشعر جاء فيهما:

 باي لسان يا شعيب تترجم فعمرو بن بحر عند وصفك يبكم

 فما مسهب الا يقول برغمه اخيرا وان طال المدى الله اعلم

 وهو يقارن شفوفه ومكانته بغيره من العلماء ليرى ان شفوف ابي شعيب في ظروف ليست هي ظروف غيره في القرن الحادي عشر أو الثاني عشر الهجريين في المغرب ويمكن تلخيص رأي المؤلف في ابي شعيب في الفقرة التالية:

 الشيخ شعيب هو العلامة المشارك الذي يذاكر كل ذي فن في فنه ثم لا يعجز عن ان يتخلل معه في مسالكه الدقيقة وان كان مذاكره أكثر تحصيلا من الشيخ في ذلك الفن، أو كان فيه إخصائيا لأن الله أعطى له ملكة يقتدر بها ان يعلو دائما كعيه في المباحثة فلا يقوم جليسه الا معجبا به راضيا«. (ص: 14)

 وإذا كان معجبا به ويعلمه وطريقته في التدريس وبراعته في النقاش فإنه عندما يتحدث عن بعض التصرفات وعلاقته بالسلطة والمخزن لا يفوته ان يذكر ما بلغه عنه وأسباب غضبة المولى عبد الحفيظ عليه.

 بين الدكالي والمدني بن الحسني

 وعندما يترجم للشيخ المدني بن الحسني ويتحدث عن عصاميته وقدرته العلمية لا يفوته ان يعقد مقارنة بينه وبين أبي شعيب وان يظهر تفوقه عليه في ضبط التواريخ يقول:

 كان شيخنا الدكالي يستحضر من الرجال في الأسانيد ما يستحضر، فأراد شيخنا هذا الذي هو في مرتبة الآخذين عنهن ان يخطو أمام ذلك خطوة أخرى فصار لا يقنع في التعريف بأولئك الرجال بما كان يقنع به الشيخ الدكالي، فصار يستحضر التراجم كما هي بوفياتها وكل مالها، وله رموز اختص بما اصطنعها لنفسه، ضبط بها الوفيات، وإياك أن تحسب أن هذه الرموز على نمط ـ جص مشنق ـ والعياذ بالله، ومعاذ الله أن يكون سيدي المدني اللطيف ممن يصطنع من الجناد الصم قلادة يتقلد بها، وإنما رموزه تختلف باختلاف الأزمنة فحينا يرمز بواقعة مشهورة، فيستغلها قبلا وبعدا، ويتمشى في ذلك على نمط ما قيل من أن القسطلاني توفي في اليوم الذي دخل فيه السلطان سليم مصر 922 هـ ، ثم يقول: وبعد ذلك بمائتي سنة.

 

 ابن العربي العلوي

 وبعد ما أشرنا إلى الترجمة الوافية التي كتبها لشيخه أبي شعيب الدكالي والترجمة التي كتبها للشيخ المدني بن الحسني والترجمة الوافية التي كتبها كذلك للبلغيثي وغير هؤلاء من الشيوخ فإني رأيت أن أشرك القارئ في جزء مما كتبه عن شيخ آخر معروف وله تأثير كبير في الأوساط العلمية والثقافية والسياسية في مغرب القرن العشرين ولكن الحديث عنه وعن مكانته قليل إذ هناك بعض الدراسات عن الشيخ أبي شعيب نشرت في كتب ولكن كذلك الشيخ الآخر الذي اثر في توجيه الأحداث السياسية بجانب تأثيره العلمي ذلك هو الشيخ محمد بن العربي العلوي.

 هذا الرجل الذي أقام الدنيا ولم يقعدها والذي استطاع أن يواكب العمل الوطني والسياسي الى أن لقي ربه. والذي جمعته الأحداث مع تلميذه في عمل علمي وطني مثل »لجنة تدوين الفقه الإسلامي« وكذلك في تعينهما وزيرين للتاج من لدن محمد الخامس رحم الله الجميع.

 وقد كتب المؤلف ترجمة وافية له في هذه المشيخة تحدث فيها عن علمه ووطنيته وقدرته على الجدال والإقناع كما تحدث فيها عن تطوره الفكري والعقدي، وكذلك ما كان يتصف به من مكانة علمية عالية في اللغة العربية وعلومها، وما اوتي من فصاحة في دروسه وكذا قدرته في التبليغ واقبال الناس عليه مع التواضع والتحبب إلى الناس.

 

 ولكن كيف التقى به ومتى؟

 في جوابه عن السؤال يقول:

 دخلت فاسا في اليوم الثالث من المحرم 1343هـ أو اليوم الرابع، فنظمت أولا دروسي، وبعد أسابيع هدتني الصدف إلى مجلس هذا الأستاذ العظيم، فأخذتني أولا فصاحته وصراحته وتضلعه بالعربية والآداب، فلازمته ملازمة الظل للخص، فبعد نحو شهر، سأل عني الأستاذ بعض الناس، فأخبره بأنني سوسي، ثم أدرك أنني أنتمي لأسرة مجيدة، فكأنه أعجبه مني تقدمي في الأدب والعربية، وأنني لست ككثيرين من الأفاقين سكان المدارس، فلا أدري بأي سبب كنت أتكلم معه يوما بعد قيامنا من درس، فقال لي: إنني عرفت من أنت، فالآن إصغ إلي، فإنني كنت وفدت على فاس في سنك، فاستفد من تجربتي، أوصيك ان لا تتسلف أبدا من فاسي، ولا تتركه يدرك انك محتاج، فان ذلك يسقطك من عينه، وهاأنذا فكلما تحتاج إليه من الدراهم فخذه من عندي حتى تصلك الدراهم من عند أهلك، وكذلك الكتب، فهذه خزانتي مفتوحة أمامك، فخذ واقرأ ما قدرت عليه.

 وفي أثناء ذلك اتصل بدروس شيخنا الدكالي، فكان سارده في الدروس الحديثية، وقد سمعت أن الأستاذ درس إذ ذلك » الموطأ« و » الترمذي«، فإذ ذاك طرق أذنه الفكرة الجديدة في مناهضة البدع في الدين، وقد كان تيجانيا قبل ذلك ، فصار يحوم حول هذه الفكرة، وما كان ليرضخ بسهولة، لأن له صلابة غريبة في الرأي، لا ينقاد إلا بعد الاقتناع، حكى أن أول ما أقتنع بسببه أن هذه الفكرة محقة، وأنها ليست ببنت اليوم، وأنها مذهب المحدثين المتثبتين.

 ابن العربي من الطرقية إلى السلفية

 في عشية يوم استدعاه بعضهم إلى عشاء في فاس الجديد، قال: فلمحت في عرض الفراش كتيبا فمددت يدي لأتناوله، وكنت مغرما بالمطالعة لكل كتاب، خصوصا كتب التواريخ والحكايات، فمعنى منه رب البيت، وقال: لا حاجة لك فيه، فقلت له: يا سبحان الله، ما كان لطالب يعرف أن يقرأ أن يقال له هذا، إنما هو أمير نفسه، فبعد أن يقرأ منه فله إن أعجبه أن يستمر حتى يتمه، وإن لم يعجبه ألقاه حينئذ، قال: ثم تناولت الكتيب فوجدت في عنوانه: »الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان «، وأنه لابن تيمية الحنبلي، فذهبت به، فما نمت حتى أتممته، فحينئذ استقر رأيي على الحق، هداني الله إليه، ثم تلا قوله تعالى: (الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله).

 ثم إنه بعد ذلك أقبل على كتب الطرق يطالعها ويزن، ويستظهر العبارات النابية على المنهاج السوي، فانتخل رسائل مولاي العربي الدرقاوي، وكتاب » الجواهر والرماح والنفحة الأحمدية«. وكتب الطرق الموجودة الآن، كما جال أيضا في كتب ابن العربي الحاتمي كـ » الفصوص«، وكتب الشعراني كـ »الطبقات « وأمثالها، فتثبت في بعض تلك العبارات النابية نظر، ثم إلى كتب أحاديث وما يذكر في تراجم المحدثين المشهورين بإعلان هذه الفكرة في عصورهم، كابن القيم وابن حجر العسقلاني، فتكونت له من ذلك ملكة، تخللت مسالك مناظراته التي خرج إلى ميادينها.

 

 ابن العربي وقضية النظيفي

 يتحدث المؤلف عن المؤامرات التي حاك خيوطها الطرقيون والاستعمار وغيرهما ضد ابن العربي وكيف أن الله ييسر للشيخ طريقة ينجو بها من ذلك ونورد فيما يلي مثالا للفتوى التي افتى بها ابن العربي في شأن النظيفي شيخ الطريقة التيجانية في مراكش يقول المؤلف:

 ثم لما كانت قضية النظيفي، كان أيضا من أعظم الساعين فيها، وذلك أن السلطان يوسف رحمه الله، رفع إليه بعض مؤلفات هذا الشيخ، وفيها: أن صلاة الفاتح من كلام الله القديم، وأنه من قرأها فإنه كمن قرأ » القران « ستة آلاف مرة، فاستنكر السلطان ذلك واستعظمه إلى الغاية، فأحال القضية إلى علماء القرويين ليقولوا فيها رأيهم ، فأجمع الجميع على أنها كلمة مستنكرة، والغريب أن من بينهم مولاي أحمد البلغيثي وأمثاله، وأذكر أن الشيخ أبا الإسعاد كان أيضا من الذين سعوا في ذلك سعيا حثيثا، وأذكر أنني كنت في القرويين، فدخل العلماء الكبار والقضاة إلى الخزانة يتداولون فيها، فوقعوا كلهم بخطوطهم أنها كلمة عظيمة مستنكرة من كل كمسلم يعتقد أن لا قديم إلا الكتب المنزلة على أنبيائه، ويعتقد أنه لا أعلى من »القرآن الكريم«، ثم أفتوا بأن معتقد هذا إن كان اعتقده كما هو، فهو كافر يستتاب ثلاثا وإلا قتل، وإن كان إنما نقله أو غلط في التعبير عن شيء زوره في فكره فإنه يعزر.

 هكذا القتوى كما اشتهر إذ ذاك، فذهب الجواب إلى السلطان، فبقيت القضية مسكوتا عنها من أجل أن الحاج التهامي الاكلاوي، وهو ممن يعتقد النظيفي قد تداخل في القضية، فأفهموا رؤساء الحكومة الحامية والمحمية أن النظيفي ذو أتباع كثيرين، وليس بالسهل أن تمسه يد، فترك وشأنه تطلبا لدوام الأمن العام، هكذا لنا، والله أعلم كيف كان ذلك.

 هذه بعض الملامح والإشارات عن كتاب قيم حوى مجموعة من التراجم والفقهيات والأدبيات وقصائد ومطارحات شعرية تؤرخ لمرحلة مهمة من تاريخ المغرب وهي أربعينيات القرن الماضي.

ذ. محمد السوسي

5/7/2010