ماضــي ســوس العلمي محاضرة للعلامة محمد المختار السوسي
رضى الله عبد الوافي المختار السوسي جريدة التجديد : 31 – 03 – 2008
لقد كان لإقليم سوس حظ كبيرا حين اختار له الله أحد أبنائه البررة، الذين رفعوا مجده وذكره عاليا، وأحيوا تاريخه وقادوه إلى المجد، الذي كان أو كاد أن يكون نسيا منسيا، لولا هذا الطالب السوسي ابن قرية صغيرة في أصقاع سوس، بعثه الله وهيأ له الأسباب حتى صرف أنظاره إلى الوجهة التي حول جهوده المبذولة في غيرها إلى ما هو أنفع، بل وقام بالعمل المفيد المتأكد، وألهمه الله إلى الكتابة عن أبناء إقليمه، مستعينا بالله ومفوضا له الأمر حتى ترك لهم ما يشيد بهم وبمجدهم وبثقافتهم، مهيئا لهم مجلدات ومؤلفات وأبحاث علمية عديدة، لا يمكن الآن لأي باحث أو دارس الاستغناء عنها، فهي المصدر والمرجع الوحيد الجامع والحافل لتاريخ قطر سوس بأجمعه.
مما لا شك فيه أيها القارئ النبيه أنك تعلم أن من تحدثنا عنه ما هو إلا العلامة محمد المختار السوسي، مؤرخ الذاكرة السوسية، الجامع لشتاتها المحيي لمجدها كما قلنا، وتعلم أيضا الانشغالات الأخرى العديدة التي كان يعتبرها من الأولويات، كنشر المعرفة وبناء دولة مغربية حرة وموحدة، والاعتناء بالجانب التربوي والعلمي والثقافي، وصاحب منظومة تربوية معتمدة على الدين والأخلاق والحفاظ على اللغة العربية وعلى الوحدة الوطنية، ويبرز هذا جليا في الجانب الذي وهب فيه حياته وجعله رسالة سامية، وهو الجانب التدريسي، الذي أعطى فيه القدوة والنموذج للمعلم الصابر ذي النفس الطويل، المحافظ على الهوية الدينية لهذا الوطن، والحريص على إيقاظ الهمم وتعليم العقول مع المحافظة ونشر اللغة العربية والدفاع عنها، هذا كله إلى جانب تأسيس المدارس وتأطيرها والإشراف عليها، وصاحب نظرة شمولية لمواد التدريس وبرامجها، وقد كان أول عمل قام به بعد نهاية تحصيله أن عمد إلى تحويل زاوية والده بدرب الرميلة بمراكش (أول المحرم 1348هـ)، وقد كانت هذه المدرسة (الوطنية) بداية انطلاق حركة علمية حرة وبداية النهضة الحديثة بمدينة مراكش مع مساهمات عديدة لإنشاء مدارس أخرى فيها كما هو الشأن مثلا في مدارس ابن دغوغ، بل واصل رسالته التوجيهية إلى إنجاح مشروع إنشاء المعهد الإسلامي بتارودانت، عاصمة العلم والعلماء، وحاضرة إقليم سوس، هذا المعهد الذي عمل على صون الروح الإسلامية وبث تعاليم الدين والمحافظة على أخلاقه، وإذكاء روحه الإسلامية، مع نشر الثقافة العربية، ولما كان لهذا المعهد هذا الإشعاع، فقد اتسعت دائرته بتأسيس عدة فروع له في كل من أكادير وتزنيت وماسة وبسيدي بيبي بهشتوكة وبتاليوين وبتمنار وبغيرها. وفي هذا الإطار فإننا في حلقة هذا العدد سنأتي بنص المحاضرة القيمة التي كان والدنا رحمه الله، وهو آنذاك وزيرا للأوقاف، قد ألقاها يوم افتتاح وتدشين دروس المعهد الإسلامي بتارودانت، مفتتح أول السنة الدراسية (56 ـ57) بالجامع الكبير بالمدينة، وهذه المحاضرة عبارة عن درس توجيهي أشاد فيه بماضي سوس العلمي بصفة عامة وبماضي تارودانت بصفة خاصة، وأكد فيها لطلبة المعهد أن يبذلوا جهودهم لربط الماضي بالحاضر واقتفاء أثر من سبقوهم من العلماء والفقهاء. وقبل ختم هذه الكلمة الوجيزة نود أن نشير إلى أن هذه المحاضرة كان من المقرر أن تنشر في مجلة المناهل بالعدد الخاص بالعلامة محمد المختار السوسي، الذي تقوم بطبعه الآن وزارة الثقافة، إلا أن كثرة ووفرة النصوص هي التي لم تسمح بنشرها، وحصل هذا أيضا مع نص التقرير المرفوع من الوزير العلامة محمد المختار السوسي إلى ولي العهد، آنذاك المغفور له الحسن الثاني، عن رحلة قام بها، والتي كنا قد سميناها في الكتيب الذي نشرناه (دليل المؤلفات والمخطوطات) تحت اسم الرحلة الأميرية. وختاما جعلنا الله في خدمة الصالح العام وعيدكم مبارك سعيد. رضى الله عبد الوافي المختار السوسي المكلف بنشر تراث والده للاتصال: 070469751 ماضـــــي ســــــوس العلمـــــــي محاضرة للعلامة محمد المختار السوسي في إطار نشرنا لوثائق خزانة العلامة محمد المختار السوسي، ارتأينا هذه المرة أن نأتي بنص المحاضرة القيمة التي كان قد ألقاها وهو آنذاك وزيرا للأوقاف بمناسبة التدشين وبداية الدراسة في المعهد الإسلامي بحاضرة سوس مدينة تارودانت (1956 ـ 1957م)، وقد ألقاها رحمه الله بالجامع الكبير، حيث كانت تقام الدروس مؤقتا في انتظار إتمام بناية المعهد. بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على مولانا رسول الله أيها المستمعون الكرام: {يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات، هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون}. جاء الإسلام على فترة من الرسل أعظم حادث في تاريخ الإنسانية، فكان محور كل ما أتى به من إقامة الحق، ومن الدعوة إلى تآلف القلوب، ومن عمارة الأرض بالعدل والإحسان، يحوم حول العلم، علم القلوب، علم العقيدة، علم الألسنة، علم القضاء، وعلم الاستفادة من خبايا الأرض ومن مكنونات الطبيعة، علم كل ما يمكن لعقل الإنسان أن يدركه فينتفع به في حياته الأولى، وفي حياته الأخرى، فترى كل صقع ينضوي تحت راية الإسلام يقبل تلقائيا بدافع عقيدة الإيمان إلى محل علم كيفما كان، فيلتهم علم فلاسفة اليونان والهند والكلدان، كما يلتهم علم شرائع الأديان، بنية خالصة تعرف مبادئ الإسلام كيف تؤسس الاهتبال بها في صدور معتنقيهم، فتراهم يتسابقون إلى الارتواء من معينه بدوا وحضرا، حتى ليعد ذلك من غرائب التاريخ. فهذا قطرنا السعيد المغرب الأقصى أكبر آية في ذلك، ألم تسابق أطراف بواديه حواضره في الميدان العلمي، من أوائل القرن الثاني الهجري، فهلم جرا، فهذه سجلماسة التي بذر فيها البذرة الأولى من العلم العربي، بعض أصحاب عكرمة مولى عبد الله بن عباس، ثم سرعان ما صار ذلك البسيط مدرسة علمية زاخرة بالأفذاذ، ثم لم ينقطع ذلك إلا من قريب، وهذه درعة، من ذا الذي يجهل مكانتها في المعارف منذ القرون الأولى، إلى ما بعدها، فكم جهبذ نشأ في ذلك الوادي، وكم فطحل عظيم يعرفه التاريخ هناك، خصوصا منذ انبعث في جوه معهد (تامكروت) الذي كان أحقابا يصدر الواردين حتى يضربوا بعضهم فيؤوبون وهم يتدفقون معارف وإرشادا ونصحا للعباد، وقل مثل ذلك عن الأطلس منبت الدلائيين، ومتبوأ رجال الحمزاوية والتنغملتية، ومثل ذلك عن تادلة حيث كان في القرن الثالث زهاء أربعين معهدا إلى الآن، ورثها كلها معهد أبي الجعد أخيرا، وقل مثل ذلك في جبالة وفي الريف وما إليهما، وكل هذا عند المطلعين أشهر من نار على علم، ومتى احتاج النهار إلى دليل. وأما هذه الجهة السوسية، فإنها وإن تأخرت قليلا عن النهضات العلمية المذكورة في القرون الأولى عن تافيلالت وعن درعة وعن تادلة وعن جبالة، فإن مجدها العلمي ظهر منذ مفتتح القرن الخامس، فتتابعت حلقات وحلقات من المعاهد العلمية، تتكاثر شيئا فشيئا حتى ناهزت في القرن الماضي مائتين ما بين كبير وصغير، تدرس فيها كلها علوم العربية، ولا يخفى عند المطلعين أن أول معهد يعرفه التاريخ في بادية المغرب كمدرسة خاصة مذكورة، هو معهد سيدي وكاك المتوفى نحو 445 هـ، ومن هذا المعهد درج عبد الله بن ياسين، الناشئ في تمنرت التي توجد الآن إزاء مركز فم الحصن، وقد قرأنا في تاريخ ابن خلدون ما يدل على أن هناك مع وكاك في جزولة حركة علمية يرأسها علماء دينيون استقدموا ابن ياسين من الصحراء ليجمع شمل شمال إفريقية، ثم اندفعت حلبة أخرى إلى الميدان في القرن السادس، فذكر من افذاذها محمد بن الأمان الجزولي، المشهور بعزوفه عن المناصب، ومعاصروه سالم بن سلامة الروداني ووزكان الجزولي الصرير، من أصحاب أبي بكر المعافري، وأبو عيسى الجزولي النحوي، صاحب الكراسة المشهورة في النحو، وشارح ديوان المتنبي، ومحمد بن تومرت، الداهية الذي قلب دولة إلى دولة، وعقائده وعزائمه معلومة. ثم في القرن السابع برز أبو يحيا الكرسيفي، المتخرج بعلماء الأندلس، بعدما أخذ عن علماء أسرته العلمية، كعمه سعيد بن نعمان، ثم كانت وصايته لأولاده ألا يشتغلوا أبدا إلا في ميدان المعارف، كما كان إذ ذاك عبد الرزاق الجزولي من أصحاب الشيخ أبي مدين، ثم جلى في الميدان كثيرون كعبد الرحمن بن عفان الجزولي، صاحب الشروح على الرسالة وعلى المدونة، ثم محمد بن سليمان الجزولي العلامة الرحالة، والشيخ محمد بن سليمان الجزولي العلامة الصوفي الحافظ للأصلين أحد السبعة الرجال بمراكش، وخالد بن يحيى الكرسيفي، وعبد الواحد الوادنوني الركراكي، شارح المدونة، وحسين الشوشاوي، شارح التنقيح للفرافي، وشارح مورد الظمآن، وداود التتلتي التملي، صاحب الفقهيات المعروفة، وسعيد الكرامي صاحب المؤلفات الموجودة في الفقه والنحو والتنجيم والقراءات، وأخيه عبد الرحمن شارح التلقين والبرهانية السلاليكية، وإبراهيم بن بلقاسم السملالي، الحيسوبي المؤلف في الحساب، ومحمد بن إبراهيم أبراغ الإيفراني، المؤلف في النحو والبيان، وكثيرين أمثالهم من الأفذاذ الذي ازدان بهم القرن الثامن والتاسع. وأما ما بعدهما من القرون فقد أتى الوادي فطم على القرى كما يقولون، فإن كان في تلك القرون يعدون بالعشرات فإن من بعدهم يعدون بالمئات، فإن العلم انتشر في القبائل انتشارا عجيبا، فكلهم درسوا وألفوا، وناهيك بالشيخ محمد ـ فتحا ـ بن إبراهيم التامانارتي، من أبطال الجهاد في معارك البريجة بالجديدة، مدرسا ومؤلفا ومرشدا، وبابنه إبراهيم شارح منظومة ابن زكري، وبالعلامة أحمد التزركيني الإيسي، يعسوب عصره في التحقيق، وابن يعقوب الإيسي، الذي فاز من بابا السوداني بالثناء المعطر، وبالإمام الحسن بن عثمان، الذي أجزأت به فاس يوم خرجته على يد الونشريسي وابن غازي، وبالبارع في الفنون، خصوصا المنطق، الرحالة الحاج عمرو بن يعزى السملالي، وبالنحوي العجيب صاحب كتاب سيبويه محمد ـ فتحا ـ بن إبراهيم البعقيلي، وبحسين بن داود التغاتيني شارح الرسالة والتلقين وبيوع ابن جماعة، وبالأديب أبي بكر بن أحمد التملي، شارح مقصورة المكودي، وبالأديب علي بن محمد التلكاتي، المترسل الشهير، وبمحمد الجزولي التملي، نزيل درعة، والد الرحالة صاحب النفحة المسكية، إلى غيرهم من الأعلام في القرن العاشر، ثم تلتهم طبقة أوسع منها عددا ومعارف، كالعلامة الزاهد أحمد البوسعيدي، صاحب المؤلفات المشهورة، وشيخه عبد الله بن سعيد بن عبد المنعم، آية الآيات في العلم والسنة ومحاسبة النفس، الذي أبقى مؤلفات شتى، ومحمد بن علي الهوزالي، النابغة شارح ديوان المتنبي، وسعيد بن إبراهيم العباسي، جد الأسرة العباسية التي تفنن علماؤها في التأليف، في الأجيال بعده، ومحمد بن الحسن اللكوسي، ناظم النقاية، وصاحب مؤلف في الحلى والشيات، ومحمد بن سعيد المرغيتي المؤلف في السيرة والفلك، وعبد الله بن سعيد الثخفستي، المؤلف في المناسخات وغيرها، والشيخ عبد الله بن يعقوب، وصنوه علي بن أحمد الرسموكي التوأمين تأليفا وتدريسا وإرشادا وشهرة، وعبد العزيز الرسموكي، ناظم المغني، وصاحب مؤلف حول كتاب الجوهر في اللغة، وعبد الرحمن التامانارتي مؤلف الفوائد الجمة وغيرها، وعلي بن احمد صاحب البرجيات إلى غيرهم إلى غيرهم من أهل ذلك القرن الذي يعد عن حق عصرا ذهبيا في هذا القطر السوسي. ثم جاء القرن الثاني عشر بالمؤلفين الكبار، كأمثال أحمد الصوابي وأحمد العباسي، وأحمد بن عبد الله الكرسيفي وإبراهيم بن محمد الصوابي وأحمد أحزي وإبراهيم الأدوزي، وأحمد بن سليمان الرسموكي، الماهر في مؤلفاته الشتى، وداود بن علي الكرامي وأحمد بن عبد الله الأسغركيسي وعبد الله الجشتيمي ومحمد بن محمد الوسخيني وعبد الله بن يبورك التمليليني ومحمد بن علي الهوزالي وأحمد بن إبراهيم الركني، ومحمد بن مبارك المحجوبي ويحيا بن محمد الأنكضائي والشيخ الحضيكي، ومحمد ـ فتحا ـ بن يحيا الأزاريفي وأحمد بن يوسف الوولتي الططائي، ولكل من هؤلاء ومعاصريهم الكثيرين سعي مشكور في التأليف وأعمال خالدة في التعليم في المدارس. وأما في القرن الثالث عشر، فحدث عن البحر ولا حرج، فهناك محمد بن الحسن التغزفتي وعمر بن عبد العزيز الأرغي، ومحمد بن علي الرسموكي، ومحمد بن محمد بن الحسن الحامدي، وعبد الله بن الحضيكي، قرين الرهوني في مباحثته مع بناني في حاشيته الزرقاني، وكتب الطب ككتاب الزهراوي، الذي كان يحفظه، والذي يمليه في تدريسه، وأخوه أحمد ومحمد بن الطيفور الأسغركيسي، والحسن بن الطيفور السمكني ومحمد بن عمر الدغوغي، ومحمد بن إبراهيم أعجلي، وسيدي أحمد أنجار، وسيدي سعيد الشريف، وسيدي أحمد أوجمل وسيدي إبراهيم الأسقالي التناني، وعبد الله البوشكري، ومحمد الططائي من آل حسين، وعبد الرحمن التغرغرتي محشي البخاري، ومحمد بن إبراهيم الأمزّاوري، محشيه أيضا، ومحمد بن عبد الرحمن الادكلي محشي ابن بطال على البخاري، ومحمد بن إبراهيم النظيفي، شارح الهدية في الطب، ومحمد بن علي الأكلويي، شارح الألفية العراقية في السيرة، وإبراهيم الأكراري، شارح الاستعارات، وآخرون فآخرون ممن لا تزال النسخ الأولى من مؤلفاتهم طرية المداد، ولا تزال اخبارهم القريبة تتداول في كل ناد، وفي كل مدارسهم التي تجاروا فيها بالمطهمات الجياد، فمن منكم يجهل عبد الرحمن الجشتيمي ومحمد بن أحمد، والعربي بن إبراهيم الأدوزي، والشيخ أحمد التمكدشتي ووارث سره وأعماله سيدي الحسْن، والعلامة محمد أجمي نزيل الحمراء، بل من يجهل سيدي محمد بن إبراهيم التامانارتي، ثم التنكرتي، وسيدي علي بن سعيد اليعقوبي، وولده سيدي محمد، شارح منهج الزقاق، وسيدي محمد ابن القاضي الأدكلي التملي، وأمثالهم من أساطين علماء سوس في القرن الماضي الذي هم أشياخ أشياخنا ممن ازدهرت مؤلفاتهم، وطفحت المدارس بهم حتى كان عدد الذين يعج بهم معهد تمكيدشت يصل إلى رقم عال من المئات، وحسبك أن تعرف أن في مدرسة أدوز يوم توفي عميدها العربي بن إبراهيم سنة 1286 هـ ما يربو على مائتين، وهي مدرسة ثانوية، فقس عليها كل أمثالها، وعلى هذه الوثيرة كانت مدرسة بونعمان في عهد سيدي مسعود وابنه محمد. وأما في قرننا هذا الذي شاهدنا فيه بعد صدره نقصان الهمم وفتور العزائم، فبحسبك ان تعرف أنه لا يزال يوجد في مدارس بعقيلة ورسموكة وآيت حامد وأملن وآيت صواب وسملالة وإيلغ وإيلالن وهشتوكة وآيت جرار وبونعمان وسيدي بوعبدلي والأخصاص وإفران ووادي سوس مما حوالي تارودانت وسكتانة والفيحاء، حلقات علمية يجد فيها الطلبة ما ينقع غلتهم، فهذا مسعود المعدري وابنه المؤلف المدرس الكبير محمد بن مسعود الفحل الذي لا يجدع أنفه، ومحمد بن العربي وعبد العزيز والمحفوظ الأدوزيون المشاهير في عالمي التأليف والتخريج،وشيخنا الطاهر بن محمد الشاعر المفلق والعربي السمكني وسيدي الحسين ببيس ومحمد بن عبد الله وأخوه علي بن عبد الله الإلغيان، والشيخ أحمد الجشتيمي، والحاج محمد اليزيدي وولده أحمد وابن عبد الملك اليزيدي التوضوئي النحوي، وعبد الله اليفتركاوي وعبد الرحمان البشواري وولده الحاج عابد وسيدي الحاج علي التفلعزتي وسيدي الحاج عبد الحميد النحوي، وسيدي محمد أعبو، والحاج مسعود الوفقاوي وسيدي محمد بن عبد الله الأقريضي، وأخوه سيدي الحاج أحمد وسيدي امبارك البعقيلي ومحمد بن أحمد الرفاكي المؤرخ، وسيدي الحسين اليعقوبي وسيدي الحاج أحمد بن موسى الططائي، فلهؤلاء ونظرائهم ممن ضحوا بالنفس والنفيس في سبيل التعليم وفي ميادين التأليف حتى أوصلوا الأمانة إلى جيلنا هذا يرجع الفضل في تسلسل معارف الأسلاف إليكم أيها الأخلاف البررة. تلك نظرة خاطفة ألقيت على تلك القرون التي حملت إلينا في طياتها ما تشمخ به الآن يا ابن هذا العصر، أفلا تترحم على تلك النفوس النشيطة الطاهرة التي حافظت على الأمانة العربية الإسلامية حتى وصلت إليك نقية يا ابن القرن العشرين. على اننا لا ننسى ما للأدب السوسي أيضا إزاء أولئك النحويين واللغويين والفقهاء والفرظيين، فكيف ننسى محمد بن عيسى التملي، القائل لأميره أحمد الذهبي المنصور يصف وقوفه في وقعة (تينزرت) الموجودة في أرباض مدينتنا هذه: هو الغيث والبحر الغطمطم في الندى وليث إذا جد الطعان هصور يفوق السهام عزمه وانبعاثه ويقصو عنه في الثبات ثبير فاجابه المنصور إذ ذاك والحرب قائمة منشدا بيتي أبي فراس المشهورين: ونحن اناس لا توسط عندنا لنا الصدر دون العالمين أو القبر تهون علينا في المعالي نفوسنا ومن يخطب الحسنا لم يغله المهر أم كيف تنسى سعيد بن علي التلكاتي، الشاعر البليغ، أم كيف تنسى موسى الوجاني القائل: وليل مثل خافية الغراب عليه من ملاءات الشباب وأنجم جوه متلفعات بأردية السواد من السحاب قطعت إلى الصباح بغانيات وأقداح تشعشع بالشـــــــراب فقد سمعت هذه الجولة حول بعض أقطاب العلوم العربية في سوس، متعمدين ألا نذكر إلا بعض الذين اشتهروا بالتأليف والتدريس في غير تارودانت، متنكبين ذكر المفتين ومطلق العلماء، وأما علماء تارودانت الذين بنوا مجدها الخالد، فإليهم وإليها يساق الحديث. لا ريب أن الحركة العلمية التي غمرت كل أرجاء سوس منذ القرن الخامس، كان لهذه المدينة نصيب وافر لكونها عاصمة لسوس، ومنها وإليها كل الأعمال الإدارية، وهل يمكن أن تخلو من القرن الرابع، عهد من يسمى أحمد بن إدريس، حامل راية النحلة البجلية المشهورة في تارودانت إذ ذاك، كما ذكره ابن حزم في كتابه الملل والنحل، هل يمكن أن تخلو من علماء أمثاله، لا سيما في القرون الخامس والسادس والسابع والثامن والتاسع، وإن لم يتيسر للمؤرخ أن يلم بحقيقة ذلك بتفصيل كما يقتضيه المقام، وأما من مضى منها منذ تجدد بناء المدينة على يد محمد الشيخ السعدي، فنحن منهم على يقين، أفنجهل الأمواج الدراسية التي كانت تتموج هنا من أواسط القرن العاشر على يد سعيد الهوزالي، وعمه أحمد بن مسعود الهوزالي، وأبي القاسم ابنه، وابن أسرتهم منصور بن أحمد، وأحمد بن منصور ومحمد بن علي، الشاعر النابغة، ومحمد بن الوقاد التلمساني، أخطب معاصريه، وولده عبد الرحمن، وهم من أحفاد أبي بكر بن العربي المعافري وعبد الرحمن البعقيلي الفلكي الشهير، وعبد الرحمان التامانارتي، وأحمد بن محمد التامانارتي، وولديه أحمد ومحمد وحفيدهم المحجوب، وأحمد بن أحمد الروداني وعبد الله بن عبد الرحمن الدرعي، وعبد الله أبي مدين الدرعي الرحالة، وإبراهيم بن بلقاسم الروداني وعبد المجيد الفاسي، نزيل تارودانت ومدرسها، ومحمد بن هاشم ويحيا الوريكي، وعمر الوقاشي التطواني، نزيل هذه المدينة ومدرسها، وهو من أفذاذ عصره، وفيها توفي نحو 1156 هـ. فهؤلاء ومعاصروهم زخرت هذه المدينة بالمعارف في العاشر والقرنين بعده، ثم جاء أحمد الهوزيوي وطبقته وتلاميذهم في الثالث عشر، فتلقوا هذه الراية باليمين في حلبة تضم عبد الله الخياطي التملي، والقاضي محمد بن صالح وأحمد الدرعي الرحالة، ومحمد بن أحمد وأخاه محمد التتكيين، ومحمد بن عبد الرحمن الشريف الفاسي،نزيل هذه المدينة ومدرسها، وابن سالم، والقضاة التمليون محمدا والطيب وعبد الكريم والمحفوظ الكرسيفي والمحفوظ الرسموكي ومحمدا الجراري، ومحمدا الولتيتي وعلي بن الحسين الكيكي ومحمد بن سعيد الإيلالني ومحمدا النجار، فبهؤلاء ومعاصريهم امتد حبل المعارف في هذه المدينة، ولكن لم يكد القرن الماضي ينصرم حتى صار ظل المعارف يتقلص شيئا فشيئا، فصار المدرسون الكبار يعدون بالأصابع بعد أن كانوا يعدون بالعشرات، وذلك من أجل القضاة التمليين الذين لا يشجعون العلوم، ولذلك لم يكد صدر هذا القرن الرابع عشر يمض حتى أقفر المعهد الروداني من الدراسة إلا من بعض أناس قليلين يجولون جولات ضيقة لم تجد شيئا، فلولا الأستاذ أحمد أمزركو، ثم الأستاذ أحمد بن المسلوت، وقليلون من معاصريهم لأقفر المكان من كل دراسة منذ دخل هذا القرن. وبعد فهذه نظرة خاطفة ألقيت على ماضي سوس العلمي وعلى ما اشتهرت به هذه المدينة، ولم نذكر إلا بعض المشاهير من أساطين التدريس والتأليف، والمطلعون يعرفون هذا حق العلم، وأما لو ذهبنا لاستقصاء كل المشاهير من السوسيين البارزين بعلومهم ومؤلفاتهم في سوس وفي غير سوس، في مراكش وفاس وتونس ومصر والحجاز والشام، بله بوادي المغرب من درعة وتافيلالت والأطلس ودكالة والشاوية، لاحتجنا إلى وقت أوسع من وقتنا، وفي ذلك مؤلفات تتكلم فيها الأرقام في كل قرن، وترفع الآثار شهادتها التي تقطع جهيزتها قول كل خطيب، قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين، نقول هذا لمن يحسب أننا لبسنا ثوبي زور وتشبعنا بما ليس بموجود، وما يوم حليمة بسر: ومن يقل قوَّله أو زوره قلت له الإمام تحت الشجرة على أننا إن ذكرنا أن مدارس سوس العتيقة بلغت زهاء مائتين في الأزمان الغابرة، أفلا يؤيد ما نقول ما نراه الآن من معجزة نلمسها بأيدينا، فهذه سوس تبني الآن في سنة واحدة، بل في شهور متعددة أزيد وأزيد من مائتي مدرسة قروية عصرية، زيادة على هذا المعهد الكبير الذي نحن فيه الآن في مدينتنا هذه، وزيادة على صنوه الذي سنقف أيضا في مفتتح عهده في مدينة أكادير عن قريب إن شاء الله. فإلى الأمام إلى الامام أيها الإخوان السوسيون، فإن المجد العلمي في الانتظار، وإن المستقبل الزاهر ليفتح لكم أبوابه على مصراعيها، فلئن كانت مدرستكم من تمكدشت أسست في خارج سوس مدرسة في قبيلة مزوضة في الحوز، ثم ولدت هذه المدرسة المزوضية علماء أسسوا عشرات من المدارس في القرن الماضي، وفي صدر هذا القرن في قبائل الحوز، فقد كانت المنة الكبرى في فترة من فترات عصوركم الزاهرة، مدرسة تمكروت الناصرية التي كانت منذ القرن الثاني عشر توالي إلى سوس من المتخرجين منها من أسسوا مدارس أدوز ومدرسة الحضيكي وتمكدشت ومدرسة أكشتيم وأمثالها. فهكذا المغرب جسم واحد مشتبك المنافع، فكما يستمد بعضه من بعض أمس من سوس إلى فاس أو إلى مراكش وإلى تمكروت أو إلى الدلائيين أو إلى جبالة، كذلك تعدد الكرة اليوم، فلا نحب إلا أن تنهض أنحاء المغرب كلها على السواء، فالقطر كتلة موحدة ليس بعضين، وأهله شعب واحد ليس بعزين، فلا عرب ولا عجم ولا حواضر ولا بواد ولا سوسي ولا اطلسي، فالكل مذاب في بوتقة واحدة، والجميع صف واحد وراء القائد الوحيد أبي هذه النهضة المباركة سيدي محمد بن يوسف نصره الله. إيه أيها الإخوة السوسيون، أنتم سمعتم عن فقهائكم وعن علمائكم اللغويين والنحويين، ولكن لم تسمعوا عن أدبائكم الذين أعرف أنكم تتطلعون إلى معرفتهم أيضا، وسنحاول في فرصة اخرى لعلها قريبة أن نجول حول آدابهم العربية جولة ثانية إن شاء الله، وإن غدا لناظره لقريب. وبعد، فإليكم أيها التلاميذ الذين أقف أمامهم ممن اجتمعوا من كل قرى سوس أمد يدي طالبا منكم بكل إلحاح أن تعرفوا انكم ستكونون ورثة هؤلاء العلماء الذين سمعتم ذكرهم، فكونوا خير خلف لخير سلف وحافظوا على مكانة العالم السوسي بكل ما اشتهر به من الأخلاق الزكية والتواضع والتفنن في العلوم، والتدين التام الذي يظهر من المحافظة على شعائر الإسلام، ولكم في أخلاق إمامنا المنصور بالله خير قدوة، وستكونون من أساطين عصركم في معاهد العلوم في وقتكم، فبلغوهم أنكم ما توجهتم هذا التوجه إلا امثتالا لأوامر المسلم الغيور العربي المبين، ملكنا الشهم محمد بن يوسف، ناصر الحق بالحق، والهادي بتعاليم الإسلام إلى سواء السبيل. والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته محمد المختار السوسي