محمد المختار السوسي
جريدة التجديد المغربية
نقلا عن موقع شبكة و منتديات إدا و سملال (http://idaosamlal.com)
هو الوطني الغيور المقاوم الصبورالأستاذ العامل محمد المختار ابن علي بن أحمد السوسي الإلغي الدرقاوي الملقب برضا الله.
عالم وكاتب مغربي، ولد بقرية دوكادير بناحية تازروالت في أقصى جنوب القطر السوسي بجنوب المغرب، وتبعد عن مدينة تيزنيت شرقا ب84كلم، و على بعد 174 كلم جنوب مدينة أكادير سنة 1318 هـ وذلك في شهر صفر الخير عام1318هـ ونشأ بها . والده رئيس الزاوية الدرقاوية الشيخ علي بن أحمد الإلغي ووالدته رقية بنت العلامة المؤلف المدرس محمد بن العربي الأدوزي ، افتتح السوسي تعليمه على والدته فعلمته الكتابة والقراءة وحفظ عليها شيئا من القرآن ثم أتم حفظه على بعض مريدي والده بـ الزاوية الدرقاوية، ثم تنقل
بين مدارس منطقة سوس كمدرسة إيغشَّان ومدرسة بونعمان ومدرسة تانكرت فدرس على كبار شيوخها خاصة الشاعر الأديب المجاهد الطاهر الإفراني فأخذ عنهم اللغة والفقه والفرائض والحساب والأصول، كما اهتم بالخصوص بالأدب بتشجيع ومتابعة من عبد الرحمان البوزكارني أحد كبار الطلبة إذ ذاك بمدرسة تانكرت فتأثر بعنايته بمطالعة كتب الأدب الأندلسي وحفظ أشعارها خاصة نفح الطيب للمقري، وفي هذه المرحلة صدرت عنه مقطعات شعرية ورسائل كانت باكورة إنتاجه الأدبي .
وحين بلغ سن الإدراك اتجه إلى الدراسة الأولية لتعلم الكتابة والقراءة واستظهار كتاب الله العزيز على عدة معلمين، أولهم والدته السيدة رقية بنت محمد بن العربي الأدوزي، وختم ذلك سبع ختمات في مختتم عام 1328هـ.
مشوار الطلب
وفي أوائل عام1329هـ صبت همته الطموح للمعالي للدراسة العلمية فارتاد منابع العلوم والثقافة الإنسانية، فدرس بالزاوية الالغية، ثم التحق بمدرسة إيغشان الواقعة في الشمال الشرقي لقرية إلغ ، وأخذ عن العالم عبد الله بن محمد الإلغي ثم ارتحل إلى المدرسة البونعمانية بآيت براييم وأخذ عن العالم الصالح أحمد بن مسعود البونعماني، كما أخذ عن العالم الأديب الطاهر بن محمد الافراني،والشيخ عبد الرحمن البوزاكارني.
ومن بين ما درسه في هاته المعاهد: المقدمة الأجرومية، و لامية المجرادي في أحكام الجمل، ولامية الأفعال للإمام ابن مالك في التصريف، والخلاصة الألفية، ولامية العجم للطغرائي، والمقامات الحريرية، وطرف من الرسالة القيروانية، والمختصر الخليلي، والتحفة للإمام ابن عاصم الغرناطي، والفرائض والحساب مع كثير من القصائد الأدبية المتداولة في الدراسة .
وفي عام 1338هـ رحل إلى عاصمة الجنوب مراكش ، فقطن بمدرسة ابن يوسف، وحضر في الحلقات العلمية بالكلية اليوسفية المعقودة للفقيه محمد بن الحسن الدباغ، والفقيه محمد بن عمر السرغيني الشهير بابن نوح، وأبي شعيب الشاوي، والفقيه أحمد بن الحسن الخصاصي، كما حضر المجالس العلمية التي عقدها هناك الشيوخ الواردون عليها وهم: الفقيه فتح الله بناني، وشيخ الإسلام أبي شعيب الدكالي .
وقد تلقى عن هؤلاء الشيوخ بمراكش تحفة الحكام، ولامية الزقاق، والجوهر المكنون، والخزرجية في العروض، و السُّلَّم للشيخ الأخضري، وجمع الجوامع، ومختصر المواهب اللدنية، والجامع الصحيح للإمام البخاري .
وفي عام 1343هـ شد الرحلة إلى العاصمة العلمية “فاس” فاستوطن ببيت في المدرسة البوعنانية بالطالعة، وتردد على مجالس الشريف العلامة المحدث محمد بن جعفر الكتاني، والمفتي محمد بن الطيب البدراوي، والعلامة محمد الحجوجي. فدرس الموطأ وشمائل الترمذي، والشفا للقاضي عياض، والمسند للإمام أحمد، والحساب، والجغرافيا، و المعلقات السبع، والكامل في اللغة والأدب لأبي العباس المبرد، وديوان الحماسة لأبي تمام الطائي. وقد تتلمذ في هذه الدراسة الأدبية للأستاذ الشريف السلفي محمد بن العربي الوزاني المدغري.
وفي عام 1347هـ رحل إلى الرباط، وفيها أخذ عن العلامة الشيخ أبي شعيب الدكالي بعض الأحزاب من تفسير كلام الله المبين، ودروسا من الأمالي لأبي علي القالي، وأخذ عن العلامة محمد المدني بن الحسني طرفا كبيرا من التلخيص للقزويني، و ألفية العراقي في الحديث، و غير ذلك.
وفي عام 1348هـ عاد إلى مراكش وقام بإملاء دروس علمية تطوعية في مختلف مساجدها، وكانت تشتمل على الحديث و النحو والسيرة النبوية، والفقه وأصوله، وانتظم في عقد علماء مراكش الرسميين.
جهاده ضد الاستعمار
كان رحمه الله من الوطنيين الأحرار الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، والذين قاموا بمساع حميدة مشكورة في سبيل الوطن العزيز والعمل على انعتاقه وفك أغلاله وقيوده من ربقة الاستعمار اللعين، فقد ساهم خلال إقامته في فاس في تأسيس بعض الجمعيات السياسية السرية، والمنتديات الأدبية، و واصل نضاله السياسي والوطني في مراكش مما أدى إلى اعتقاله. ولما أكرم الله تعالى المغرب الأقصى بحريته المنشودة عُين في أول حكومة مغربية وطنية وزيرا للأوقاف العمومية وذلك خلال عام 1375 هـ، ثم لما أسس مجلس التاج عين وزيرا عضوا فيه عام 1376هـ، و بقي متقلدا مهام تلك الوظيفة إلى أن توفي رحمه الله، كما أنه اشتغل عضوا في لجنة مدونة الفقه الإسلامي.
جهود علمية ومؤلفات
ويعتبر المختار السوسي شخصية بارزة لامعة في أسماء العلم و الأدب و التاريخ و البحث والدراسة، والاستفادة والإفادة، مشارك في كثير من فنون المعرفة، متخصص بارع في مادة الأدب و التاريخ، خصوصا تاريخ سوس، متضلع في ميدان اللغة العربية، متمكن من ناصيتها، فقد أثرى المكتبة بعدد لا يستهان به من نوادر المخطوطات العربية التي اكتشفها في مختلف المكتبات المغربية، ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر:
× ديوان ملك غرناطة يوسف الثالث
× مختصر رحلة العبدري لمؤلف مجهول
× طبقات المالكية لمؤلف مجهول.
وقد خلف رحمه الله مؤلفات بالغة الأهمية نذكر منها :
× المعسول في عشرين جزءا
× سوس العالمة
× من أفواه الرجال
× رجال العلوم العربية في سوس
× اصفى الموارد
× بين الجمود والميع وهو رواية من أفكار إسلامية
× تقييدات على تفسير الكشاف للزمخشري
خطاب نادر للعلامة محمد المختار السوسي
رضى الله عبد الوافي المختار السوسي ـ المكلف بنشر تراث والده
خطاب معالي السيد المختار السوسي رئيس الوفد المغربي للدورة الخامسة لمؤتمر العالم الإسلامي
بغداد مختتم 1382 هـ
بسم الله الرحمن الرحيم
(الحمد لله الذي هدانا لهذا وماكنا لنهتدي لولا أن هدانا الله)
إخواني المسلمين من مشارق الأرض ومن مغاربها:
باسم المغرب العربي المسلم، ملكا وحكومة وشعبا، أحيي هذا المؤتمر السعيد، الذي سعى في عقده ذوو الغيرة، الذين تحفزهم دائما ضمائرهم إلى أداء الواجب، المدركون لحاجة المسلمين اليوم إلى أمثال هذه الاجتماعات للتعارف والتواصل وتبادل الآراء، ولا سيما وقد دعت الحاجة الملحة لذلك كله إلحاحا، لما يتراءى في الأفق من خطر عظيم يبدد كيان الإسلام وروحه ومبادئه، تحت ضربات الملاحدة الذين يتموج بهم العالم اليوم.
أوليس أننا نجتاز اليوم عقبة كؤودا ما تعرض قط الإسلام لمثلها منذ أربعة عشر قرنا، فقد صدم الإسلام حينا بما صدم به من الصليبيين ومن المغيرين على صقلية والأندلس، ومن جيوش المغوليين الكاسحين للمسلمين في آسيا، فكان ذلك خطرا عظيما، ولكن الخطر الناشئ عن تلك الأحداث أمس كان خارجيا فقط، أما اليوم فإن الخطر الذي يواجه المسلمين ذو شعبتين: خطر خارجي وخطر داخلي، ومتى أصيب الجسم بداءين عضالين في وقت واحد، فهناك نقطة انطلاق الهلاك لا قدر الله.
وحين استفحل هذا الداء احتيج إلى أطباء نطاسيين يحاولون العلاج بكل ما أمكن، والدهر علمنا ألا نيأس، وديننا يملي علينا قوله: (ولا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون)، ومن أمثال هذه المؤتمرات التي يتعانق فيها الإخوان بقلوبهم قبل أن يتعانقوا بقوالبهم، وتشتبك فيها العواطف وتنبض فيها الأخوة الإسلامية إحدى نبضاتها التي تحرك من أعماق الأفئدة ما تحرك، يخرج الحاضرون بتكتل يحفز إلى الأمام، وبعزائم تصدم الجبال، فتشق فيها الطريق اللاحب، فإذا بذلك الداء العياء يزول بإذن الله، (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين).
أليس لاتزال تسود على العالم الإسلامي حرارة الإيمان والتضحية بالنفس والنفيس في سبيل الذود عن حوزة الإسلام، فمن ذا الذي يجهل ما قام به صلاح الدين الأيوبي أمام المحتلين للقدس الشريف، ومن ذا الذي يجهل ما قام به قطز وبيبرس الذين أوقفوا زحف التتر الدائسين على حرمة عاصمة الإسلام، وما أدراك ما بغداد عاصمة الإسلام، ومن ذا الذي يجهل ما قام به أبطال الهند والفرس والترك، كمحمود الغزنوي ومحمد الفاتح، وكل أبطال الإسلام في الشرق، سقى الله عظامهم شآبيب الرحمة.
وأما عندنا في شمال إفريقيا، فإن لأمثال إدريس ويوسف بن تاشفين وعبد المؤمن ويعقوب المنصور وأبي الحسن المريني مواقف عجيبة في نظائر معارك الزلاقة والأرك، مما سجله تاريخ الإسلام هناك ولم يكن ليدفع بهؤلاء الأبطال من العرب أو البربر ـ والإسلام أزال هناك كل الفروق بين العرب وغير العرب ـ إلا حرارة الإيمان، فبينما هم هكذا يدافعون هجومات أعداء الإسلام من جهة إسبانيا، إذا بهم يدفعون بالبعثات إلى خط الاستواء وما إلى وراء خط الاستواء، فيبنون الإسلام في السودان حتى صار ما بين ”أوغاندا” إلى ”نيجيريا” فضلا عن ”مالي” و”سينيغال” من مجالات الإسلام ومن دوله اليوم، وما فتحته المعاملة الحسنى في إفريقية من تجار المغاربة أو المرشدين إلى الإسلام أكثر مما فتح بغيرها.
فهكذا أدى شمال إفريقيا من ”ليبيا” و”تونس” إلى ”المغرب” ما عليه للإسلام من هذه الناحية، وما ذلك كله إلا ببركة المحافظة على مبادئ الإسلام تربية وقانونا ولغة، وما حافظت دولة إسلامية على هذه المبادئ إلا اندلقت منها حرارة الإيمان، تؤدي واجبها الإنساني، وهكذا زال ذلك الخطر الأول.
وأما مصيبة الإسلام اليوم، وما أدراك ما مصيبة الإسلام اليوم، فإنها أكبر من أختها، وأعضل وأنكى وأخوف عاقبة، فإن الاستعمار يبذل من مكايده ومن أمواله ومن قوته المعنوية والحسية، ومن تعاليمه وبهرجة حضارته البراقة، كل ما في إمكانه من تمويه وفتح لأبواب الشهوات على مصاريعها، وإطلاق كل حريات للرذيلة، مع الاستهانة بالفضيلة، فاستحوذ على المشاعر، واستعمر العقول من بعض أبناء المسلمين، زيادة على استعمارهم لبلادهم جمعاء، فسرب من الإلحاد وانحلال الأخلاق ما احتل به مكان الإيمان، ومن الوطنية الضيقة ما ملأ مكان الوطنية الإسلامية الإنسانية العامة لكل بني الإسلام. ثم اصطنعت الحدود ومنعت الجوازات، فجهل بعض المسلمين بعضا، فأدى مجموع ذلك إلى أن كادت الأخوة الإسلامية تنهار، والنظرة العليا إلى المثل الإسلامية السامية تفقد، فظن المستعمرون أنهم قضوا على الإسلام إلى الأبد، ثم لما دقت ساعة الاستقلال من بعض البلاد، حاولوا أن يتأسس الاستقلال على التنكر للإسلام، فكان لهم بعض ما كادوا ومكروا، ولكن الله خير الماكرين، والإسلام لا يطول سباته تحت التخدير، ولذلك اتبعت بفضل الله حمية محمودة أخيرا، من رجالات الكفاح، فاستطاعوا بكل الأساليب المتنوعة أن يزحزحوا عن غالب العالم الإسلامي كابوس استعمار البلاد، فتولت أيدي بنيها الحكم وإدارة الشؤون وفق ما تيسر لهم، ودفعوا بالبلاد دفعا بكل حماسة، حتى صار غالب الشعوب الإسلامية تسير في قافلة أمم العالم، تتطور في الرقي المادي بكل ما في المستطاع.
ولكن هل هذا وحده هو المطلوب من المسلم المستقل ماديا نحو دينه الذي هو دين الرقي في كل زمان ومكان، تكفل لأبنائه بأسس ونظم وقوانين يتمشى عليها المسلم ليسعد في الحياتين معا: (تنزيل من رب العالمين، فلا وربك لا يومنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما).
وبعد فهل نحن مستقلون حقيقة مع أننا لانزال نرى في بعض بلداننا بعد هذا الاستقلال من رواسب الاستعمار ما نرى من بعض قوانين وبرامج في التعليم وفي التربية وفي تسيير أنواع من الأخلاق لا تمت إلى أخلاق الإسلام بصلة، زيادة على الخلافات التي تنشأ لأدنى سبب كأننا لسنا بإخوة، كأن ديننا لم يجعل منا جسدا واحدا، يتـألم بعضه لبعض يسعى بذمة المسلمين أدناهم، وهم يد على من سواهم.
بل كيف يقول المسلمون المستقلون إنهم حقيقة مستقلون مادامت هناك شعوب إسلامية أخرى لاتزال ترزح تحت الاستعمار الغاشم، مثل ”فلسطين” التي منها في قلب كل مسلم جذوة تتلظى ومثل ”عمان” و”حضرموت” و”عدن” وجانب من ”أندونيسية”، فنحن مثلا في ”إفريقية” هل نعد مستقلين تمام الاستقلال ما دامت ”الجزائر” لم يتم تحررها (1)؟ أو مادامت أطراف من ”المغرب” لم تنضم إليه كـ”سبتة” و”مليلية” و”الصحراء” إلى ”موريطانيا”، ومثل هذا يقال في بلاد إخواننا في نواح أخرى من ”إفريقية” امتزج في بعضها الاستعمار بتخدير من ”إسرائيل”.
وبعد فالواجب أن يستمر الكفاح للمجموع حتى يتحرر جميع العالم الإسلامي من الاستعمار ومن رواسب الاستعمار، وحتى يسترجع المسلمون مكانتهم الماضية، ويظهروا ما تستحقه كثرتهم اليوم، وهذا لا يمكن أن يسترجع إلا بالتربية الإسلامية في الأخلاق وبالاعتناء بإحياء ما أتى عليه الدهر من روح أجدادنا الكرام، وباقتباس كل ما لا يتم لنا إلا به الاستمتاع بالحياة الواقعية، فصدر الإسلام رحب ينفتح لكل حكمة يقتبسها من غيره، ويتقبل كل نظام في عمل من الأعمال، مادام لا يصطدم والمبادئ الأساسية في الإسلام، وهكذا ينبغي أن نفعل كما يفعله من يشتري من السوق منسوجا ثم يقطعه على قدر قامته، وإلا فكيف يصح أن نغفل هذا المقياس عندما نقتبس من غيرنا ما لابد لنا منه فنضرب بتشريع ديننا وبلغة قرآننا وبتقاليدنا المجيدة عرض الحائط، خوف أن يقال إننا متزمتون جامدون، ولم يضرب الرقم القياسي في البلاهة ـ إن كان حسن النية ـ إلا من يريد أن ننسلخ من جميع أمجادنا وتقاليدنا الصالحة، ومن ديننا ومن قوانين قرآننا، إذا أردنا أن نترقى، ونصلح للدخول بين القافلة السائرة تحت ألوية حضارة اليوم، كأننا في حياتنا اليوم أمة بدائية لا ماضي لها ولا قانون ولا تقليدا صالحا لكل زمان ومكان.
أما نحن في ”المغرب”، فإن أمكن أن يتنكر شعب من شعوب الإسلام للإسلام وتعاليمه، فإن ذلك محال في حقنا، لأننا ما تكونا كدولة بين الدول إلا ببركة الإسلام. فقد مضى على قطرنا الفينيقيون والرومان والوندال والبيزنطيون، فلم يكن لنا ظهور كدولة إلا بمجيء الإسلام، فبه حصلنا على استقلال استمر من القرن الثاني الهجري إلى هذا القرن الرابع عشر، ولولا الإسلام لما كنا في العالم اليوم شيئا مذكورا، وحين كان ”المغرب” في موقع عجيب يجاور ثغرا عظيما من ثغور الإسلام وهو ”الأندلس”، صار دائما يقوم بما عليه في كل عصر من الكفاح، فيدافع الإسبانيين من القرن الخامس إلى هذا القرن الذي نحن فيه، وقد انفرد ”المغرب” أخيرا بالكفاح في ”الأندلس” إلى أن التهمت المسيحية في فترة ضعف ذلك الفردوس المفقود، فانتقلت ميادين الكفاح إلى أرض ”المغرب” نفسها من القرن العاشر الهجري، فمن ذا الذي ينسى ما قام به محمد الشيخ والمنصور الذهبي، ثم مولاي إسماعيل ثم سيدي محمد بن عبد الله في عصورهم من استنقاذ ما كان البرتغاليون وأمثالهم قد احتلوه من ”المغرب”، ثم لما تم الدست على المغرب، كما تم على غيره قبله، لم تستسلم أطراف ”المغرب” دفعة واحدة، بل كانت هناك مقاومات كانت فيها معارك في ”تافيلالت” وفي ”الأطلس” وفي ”الصحراء” وفي ”سوس”، وأما مقاومة الريف تحت راية البطل المغوار محمد بن عبد الكريم، فقد صارت حديث كل مجلس (وما يوم حليمة بسر) ثم لم تنقض المقاومة المسلحة حتى بدأت المقاومة السرية تحت راية الحرارة الدينية والغيرة العربية، فلم تزل تتسع حتى ضمت في صفوفها ملك البلاد فمن دونه، فكان لمحمد الخامس، البطل الجسور، وعضده الأيمن ولي عهده إذذاك وجلالة ملكنا الحالي يد في الكفاح سارت بأخبارها الركبان، ثم جاء الاستقلال بفضل الله وببركة الاتحاد وبتضامن العالم الإسلامي معنا، فوجد الشعب نفسه يرزح تحت كلاكل الجهل والفقر، اللذين هما نتيجة لستة وأربعين عاما قضاها الاستعمار في البلاد، ومن يوم تأسست الحكومة الوطنية بعد الاستقلال، صارت تبذل من الجهود الجبارة في الميادين الحيوية كل ما في إمكانياتها، فلم تترك سبيلا من سبل التقدم إلا اعتنت به غاية الاعتناء، خصوصا الميادين التي أهملها الاستعمار، ففتحت المدارس في البوادي والحواضر، وشقت طرقا أخرى من جديد، ونشطت الفلاحة ووزعت الأراضي ووضعت تصميمات سدود متعددة، وهيأت للعملة وللمستضعفين بناءات شتى بأرخص الأثمان، وبنت قرى نموذجية، وأسست شركات للملاحة الجوية والبحرية، وبعثت بمئات كثيرة من الشباب ليتعلموا في الخارج من الأعمال والنظم ما يرفع شأن الأمة، ونشطت الصحافة وتركت لها حريتها التامة تنتقد ما شاءت لتستفيد الحكومة من انتقاداتها، وهيأت من الإدارات ما لم يكن قبل الاستقلال موجودا ولا يعرفه مواطن في زمن الاستعمار، وقد جاء الاستقلال بغتة من غير أن يتكون إطار من الأهالي يسير الأعمال، فنشط الشباب في العمل، وسرعان ما تدرب، فاستولى على إدارة البلاد كلها، ولم يبق من الأجانب إلا فنيون، ثم يستغني عنهم شيئا فشيئا.
هذه هي اعمال حكومة ”المغرب”، فقد قفز عدد التلاميذ من مائتي ألف إلى مليون ومائتي ألف، وأما قانون الأمة فقد بذلت جهود لمراجعة كل القوانين لتكون إسلامية، وقد أنجز منها قانون الأحوال الشخصية، والأموال والعقارات، والعمل مستمر لإنجاز العمل إلى أن يتم إن شاء الله، ومن هنا تعرف الجهود التي تبذلها الحكومة عندنا تحت ظل جلالة الملك، الذي يجتهد غاية الاجتهاد في رقي شعبه.
هذه نظرة خاطفة عن سياسة ”المغرب” الداخلية، وأما الخارجية فإنه اختار سياسة عدم التحيز إلى إحدى الكتلتين البارزتين اليوم في أفق العالم، فـ”المغرب” يصادق الجميع ويمد يده لكل عمل إنساني كيف ما كان دين العامل واتجاهه السياسي، إلا أن المغرب العربي المسلم يندمج دائما في إخوانه العرب وبين إخوانه المسلمين، ولذلك يلبي كل دعوة عربية أو إسلامية بكامل السرور، ويجتهد أن يملأ مكانته الإسلامية اليوم بين المسلمين كما ملأها أمس، وهذا الذي ذكرناه عن ”المغرب” من الاجتهاد في التملص من رواسب الاستعمار هو بعينه ما في غالب الشعوب الإسلامية المستقلة قبل ”المغرب” وبعده، ولكن أنسمي هذا الاستقلال حقيقة استقلالا مادام كثيرون من أبناء المسلمين ـ ويا للأسف ينسون ماضي أجدادهم، ومبادئ دين أجدادهم، وتقاليد أجدادهم، فيترامون على أفكار طازجة ليست بنبع إذا عدت ولا غرب فيرتاحون لها ثم يقومون بالدعاية لها، ويتمنون لو أحلوها في مجتمع المسلمين مكان مبادئ الإسلام. أو ليس أن قلوب هؤلاء مستعمرة، تملكها أفكار غير إسلامية، فيرون أن ينفذوا في بني جلدتهم ما كان المستعمر يود أن ينفذه فيهم قبلهم لو وجد إلى ذلك سبيلا، فقد يرتاح بعض هؤلاء لكل جديد، وإن لم يكن إلا تافها أو فكرة عابرة، ويشمئزون من دراسة الإسلام ومبادئه السامية، بل يعرضون عنها إعراضا، وبكل أسف صارت بعض الإدارات العليا بعد استقلال بلاد الإسلام إلى أيدي هؤلاء، فصاروا ينفذون في أبناء البلاد ما كان الاستعمار يبيته للبلاد، حين كان ينشر الإلحاد وسفالة الأخلاق، ويحاول أن يركز في قلوب النشء >أن القرن العشرين صاحب الذرة والصواريخ لا يمكن أن يصلح ميدانا لدين صحراوي بدائي< (كبرت كلمة تخرج من أفواههم). فبعض بلاد الإسلام الآن تعاني من هذا الداء العضال ما تعاني، فالمستعمرون المطرودون من العالم الإسلامي لايزالون يهاجمونه في الخارج، وهؤلاء الأغرار يهاجمونه في الداخل والعجيب أن حركة الهدم هذه تزداد اتساعا بسرعة بعد الاستقلال، فما على الذين لايزالون يغارون على الإسلام من رؤساء دولنا وقادة فكرنا وزعماء هيئاتنا إلا أن يتكتلوا ويجتهدوا، وأن يقاوموا بعزائم لا تني وهمم لا تفل، فعلى كل ذوي غيرة في بلدهم أن يقاوموا كل المقاومة، وإلا فالإسلام اليوم مهدد في عقر داره أكثر مما هدد في أزمان الصليبيين والمغوليين، بهذا الخطر الذي يكا د يكون جارفا لا قدر الله. فأما نحن في المغرب فقد سعى ذوو الغيرة بمؤسسات لهذه المقاومة في طليعتها ”جمعية رابطة العلماء” التي تجد تنشيطا مستمرا من جلالة الملك الذي يهتم بدرء هذا الخطر، حتى جعل لذلك وزارة خاصة تقصر جهودها على هذا الميدان بكل ما أمكن لها.
إن الجمام الغفير ـ والحمد لله ـ من المسلمين عامتهم وخاصتهم، تجارهم وعلمائهم لا تزال عقيدتهم سليمة صحيحة راسخة، وهم الرصيد الذي لا ينضب لكل من سيقومون اليوم بحالة الإنقاذ، وفي مقدمتهم بعض مثقفين مسلحين عقيدة وعملا، شحذتهم ثقافة العصر وهذبتهم روح الإسلام، والشباب كما هو معلوم يهون عليه كل صعب، ويقرب منه كل بعيد. فمجموع هؤلاء هم الذين قاموا أمس في ميدان الكفاح في بلاد الإسلام، واستماتوا حتى جاء الاستقلال، والمرجو أن يقوموا اليوم أيضا في ميدان هذا الكفاح الجديد، وأن يستميتوا حتى يجنى النصر أيضا. أو ليس أن جميع الدول الإسلامية ما انبعثت منها الحركات الاستقلالية الثائرة إلا تحت الغيرة الإسلامبة، أفيجمل اليوم أن تنبذ هذه الغيرة ولا يحرص على استمرارها إلى أن نحصل على كل ما ينقصنا، وهل ينقصنا اليوم من دعائم نهضتنا إلا الروح المعنوية المتجسدة في مبادئ الإسلام الحق.
ويحلو لنا أن نسوق هنا معنى حديث عن رسولنا الأعظم صلى الله عليه وسلم فيه تصريح بدائنا اليوم وبالدواء الناجع فيه. قال صلى الله عليه وسلم: >سيأتي عليكم زمان تحتوشكم فيه الروم كما تحتوشون القصعة بين أيديكم، فقيل أمن قلة منا يارسول الله؟ قفال بل أنتم إذ ذاك أكثر ما تكونون، ولكن غثاء كغثاء السيل، ثم لا ترجعون إلى ما كنتم عليه حتى ترجعوا إلى دينكم< ـ الحديث ـ.
حقا احتوشتنا الروم كما رأينا، حتى لم يبق أي بلد إسلامي لم يغمره الاستعمار، مع كثرة المسلمين الذين يعدون بستمائة مليون، ثم لما تراجعنا إلى الغيرة الإسلامية واستمتنا في طلب الاستقلال، جاء الاستقلال بفضل الله، ولكن هذا الاستقلال إنما هو عنوان لكل ما هو مطلوب منا، فهل نعد مستقلون ما دام بعض المسلمين لا يزالون يرزحون تحت نير الاستعمار؟ أو نعد مستقلين مادام بعضنا يحتكم إلى قوانين أجنبية عن ديننا، ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون، وأولئك هم الظالمون، وأولئك هم الكافرون كما في آيات من دستور ديننا الخالد، أو نعد مستقلين ما دمنا لا نحرص على أن نربي أولادنا تربية صالحة للتخلق بأخلاق الإسلام، مع التشبع بكل ما يقتضيه العصر من أسباب القوة المادية والعلمية، حتى يستحقوا حمل أمانة الإسلام إلى أحفادنا في المستقبل، أوليس أننا اليوم إنما نعيش على ما كان أسلافنا الأولون تأثلوه لنا، فهم الذين انبعثوا من صحرائهم القاحلة، فشرقوا مبشرين ومنذرين حتى غرسوا الإسلام في ما وراء ”كاشغار”، وغربوا كذلك حتى خاضت خيولهم في ضفاف الأطلنتيكي، فسرعان ما صار هذا الخط الطويل المتسع جنوبا وشمالا بلاد الإسلام، التي نستمتع اليوم بخيراتها وبطقسها الجميل، فما انتشار هذه اللغة التي يتفاهم بها الآن ابن ”المغرب” مع ابن ”أندونيسية” إلا بركة من بركاتهم، وما تأصل هذه الجذور التي تعانق بها في هذا المؤتمر أبناء البلاد المترامية الأطراف إلا بجهادهم العظيم.
أوليس كل هذا من غرس أسلافنا الكرام، فماذا صنعنا نحن بدورنا، فإن لم يكن لنا إلا المحافظة على هذا التراث الواسع، فلنبذل جهودنا في تربية أولادنا التربية المطلوبة اليوم تحت أخلاق الإسلام ليمكن لنا أن نغمض أعيننا بتمام الاطمئنان على تراثنا يوم ننتقل إلى الحياة الأخرى.
إن المسؤولية عظيمة والكفاح يجب أن يستمر، أوليس بعار ما فوقه عار أن نرى شعب ”إسرائيل” لا يتجاوز بضعة عشر مليونا متفرقين في العالم، أجمع أمره وتكتل ذوو الرؤى منه وراجعوا روح دينهم، ودأبوا على تربية أولادهم تربية دينية عصرية مسلحة بالقوات المعنوية والحسية، ثم لما وثبوا على مقدس من مقدساتنا لم نملك نحن إلا أن نجتمع لنتباكى، كما تجتمع اليتامى والأيامى في مأتم من المآتم، فهلا اهتززنا وأثرناها مضرية نحيي بها ذكريات أبطال بدر واليرموك والقادسية وحطين ووادي المخازن بهمم متعالية، فنستميت حتى ندافع عن مقدساتنا كل الدفاع المجدي، ولعل هذا سيكون إن شاء الله قريبا، فنصدق معنى الحديث الذي فيه (إنكم ستقاتلون اليهود فتغلبونهم حتى يقول حجر هذا يهودي ورائي) ولله الأمر من قبل ومن بعد.
وأخيرا يجب أن يعلن أن هذا مؤتمر إسلامي خالص يستوي فيه السلفي والإباضي والشيعي وكل أصحاب المذاهب مادام أهلها يقومون بشعائر الإسلام ويقولون لا إله إلا الله محمد رسول الله.
ثم إننا نعلن شكرنا للعراق ولحكومة العراق، وللرئيس عبد الكريم قاسم، لحسن ضيافة الجميع للمؤتمر، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
والسلام عليكم ورحمة الله
1 ـ تم تحريرها والحمد لله بعد هذا المؤتمر سنة 1962 م كما تم تحرير باقي الدول المذكورة قبله، ولييسر الله تحرير فلسطين، البلد العزيز على قلب كل مسلم غيور.
الشيخ محمد المختار السوسي في سطور
ولد الفقيه الأصولي الأديب الشاعر المجاهد الشيخ محمد المختار السوسي بمنطقة سوس جنوب المغرب، في قرية ”إلغ ” التي تبعد عن مدينة تيزنيت بنحو 84 كيلومتر سنة 1319 هجرية (حوالي سنة 1901م )، من أسرة ذات حرمة في القبيلة لتمسكها القوي بالعقيدة الإسلامية، وتوفي رحمه الله تعالى في 28 جمادى الثانية 1383 الموافق 15 نونبر 1963م.
حفظ القرآن الكريم وأشهر المتون الفقهية واللغوية على يد فقيه قرية ”إلغ ” الشيخ عبد الله بن محمد، ثم على يد العلامة الطاهر الإفراني، ثم الشيخ عبد القادر السباعي.
التحق طالبا بجامعة ابن يوسف بمراكش سنة 1338هـ (حوالي سنة 1919م )، ثم بجامعة القرويين بفاس سنة 1342هـ (حوالي سنة 1923م )حيث أخذ عن الشيخ محمد بن العربي العلوي قطب سلفية عصره، وكون مع مجموعة من زملائه جمعية أدبية تبلورت فيها نزعته الوطنية التي زادها تأججا صدور الظهير البربري فجرد قلمه لمقاومته وخوض معركة الوحدة الوطنية على أسس إسلامية. وهناك ساهم في تأسيس الحركة الوطنية مع مجموعة من زملائه من أمثال الزعيم علال الفاسي والشيخ عبد العزيز بن إدريس والشيخ محمد الحمداوي وغيرهم.
وفي سنة 1347 هـ (حوالي 1928م ) التحق بالرباط واتصل بالشيخين شعيب الدكالي والمدني بن الحسني وأخذ عنهما، ثم اشتغل بتدريس الحديث والفقه والأصول والمنطق والأدب. وانتقل إلى مراكش ودرس بالزاوية الدرقاوية بباب دكالة، بجانب نشاطه الوطني تحريضا للشباب، وتنظيما للجمهور وتوعية، ومواساة للفقراء والمعوزين بماله الخاص، فتضايق الفرنسيون من نشاطه ونفوه إلى مسقط رأسه ”إلغ ” ودام منفاه سبع سنين، ثم سمح له بالعودة إلى مراكش سنة 1365هـ (حوالي سنة 1945م)، ولكن الفرنسيين عادوا لنفيه إلى الدار البيضاء سنة 1951م، وهناك عمل أيضا في الحقل الوطني رفقة صديقه المرحوم الشيخ محمد الحمداوي، الذي نفي معه إلى خأغبالونكردوس” في الصحراء، فكان يقضي نهاره في تدريس اللغة العربية لبعض الوطنيين المنفيين ويمازحهم تطييبا لخواطرهم بقوله: (خذوا العربية من شلحكم )، وبقي بالمنفى إلى مستهل سنة 1955 م، حيث رجع إلى الدار البيضاء بعد أن أفرج عنه. وفي عهد الاستقلال شغل منصب وزير الأحباس في أول حكومة (المعروفة بحكومة البكاي الأولى) طيلة 11 شهرا، ثم عين بوزارة التاج إلى جانب إلي جانب كل من الشيخ محمد بلعربي العلوي والشيخ الحسن اليوسي.
للشيخ محمد المختار السوسي تراث فكري وفقهي وتاريخي وأدبي ضخم مطبوع وغير مطبوع، منه كتاب ”المعسول”، و”سوس العالمة” وديوان شعر يضاهي به فحول الشعراء .