تزدان ذخائر محمد المختار السوسي ، بالرحلات الثقافية والعلمية الهامة ؛منها الرحلات المضمنة في (خلال جزولة ) و الرحلات المسماة ب (الرحلة الوزيرية ) و (الرحلة التونسية ) و (الرحلة الأميرية )و (الرحلة الحجازية )و(الرحلة الأولى للحواضر ).
قام محمد المختار السوسي ،برحلته إلى إيلغ رفقة أحمد شوقي ابن القاضي محمد بن العربي الدكالي و أخيه المهدي وعبد الرحمن بن فارس المراكشي وعبد السلام ابن القاضي الحاج إدريس الورزازي والطفل محمد بن الحبيب ،سنة 1937م. وضمن النص المكتوب معلومات عن السويرة وحاحا وكسيمة ومسكينة وتزنيت وإيلغ وتارودانت والحوز ،وإفادات عن شخصيات سياسية وثقافية وعلمية ،وعن مدارس عتيقة لعبت أدوارا هامة في التاريخ العلمي والثقافي لسوس.
فرحلة (من الحمراء إلى إيلغ) ،رحلة في الفضاء وفي التواريخ ، وارتحال في الذات ، للاستكشاف وللسبر وللتحقق.
رغم وجازة هذه الرحلة ، فهي حافلة بالمعلومات والأخبار والإفادات التاريخية والجغرافية والثقافية ؛ كما تحفل بأخبار عن شخصيات سياسية وثقافية ،( القائد سعيد التكزريني ، ومحمد اعمو ) ، لعبت أدوارا أساسية ،في تلك المرحلة التاريخية الانتقالية .كما يشير إلى التحولات الثقافية والاجتماعية الناتجة عن التثاقف مع الثقافة المشرقية والحضارة الغربية.
تتضمن هذه الرحلة ،أطوار سفرة المختار السوسي ورفاقه ، إلى إيلغ ،لصلة الرحم وحضور موسمها.ويصف بكثير من التركيز ، مراحل هذه السفرة ، وما تخللها من أحداث ومشاهدات ووقائع سارة وغير سارة ومطارحات أدبية وتداعيات وجدانية .كما يقف كثيرا على التحولات الثقافية والسلوكية والاجتماعية الحادثة في الجنوب بعد فرض الحماية ،وخصوصا بعد فرض التهدئة.
والحقيقة ، أننا نتعرف على مشاغل المختار السوسي الثقافية والمعرفية والتاريخية ، من خلال تركيزه على حفظ الذاكرة ، والتذكير بسير الأعلام ومنجزاتهم الثقافية ، والمقارنة بين منجزاتهم ومنجزاتهم رفاقهم من أبناء الحواضر .
كما يقارن صراحة أو ضمنا ، بين المجال السوسي والمجالات الأخرى،لإبراز تفوق بعض الأفذاذ السوسيين في الأدب واللغة والتصوف.
(فرأى رفقائي من علماء إيلغ في الأدب وفي استحضار اللغة ما لم يعهدوه من الأساتذة الكبار في الجامع اليوسفي ؛ فقلت لهم بعد أن خرجنا : أرأيتم تلك القبة التي جلستم فيها فإنها لما بنيت قيلت فيها قصائد كثيرة وكذلك مضت فيها محافل للعلماء العظام أيام بانيها علامة إيلغ سيدي علي بن عبد الله ، حنث الزمان بعد أن يأتي بمثلها ..)
( المختار السوسي-رحلة من الحمراء إلى إيلغ –إعداد عبد الله الدرقاوي –ضمن –التاريخ والفقه-تنسيق : محمد حجي –مطبعة النجاح الجديدة –الدار البيضاء –الطبعة الأولى -2002-ص.292).
فهو معني ،بإبراز مواطن التحضر في البوادي السوسية ،والتمسك بالثقافة المعيارية ،في وسط ذي ميزات لسانية وثقافية واجتماعية خاصة.
(..وصباحا بعد الإفطار الباكر تقدمنا بسيارتنا إلى تزنيت فدخلناها حوالي الثامنة فحللنا في دار القاضي سيدي أحمد اوعامو في منزل رحب ودار كرم دائم ، ويعجبني منه أنه ّأرى لأصحابي الحضريين أن تزنيت لا تقل في اللطف والمدنية والاستعداد للضيف عن الحمراء والسويرة . )
( المختار السوسي-رحلة من الحمراء إلى إيلغ -ص.282).
والحقيقة أن موقفه من البادية السوسية ،يتميز بنوع من الاحتمالية أو من التناقض الوجداني .
(..كذلك أنا أقول لابن العم [سيدي عبد الله بن إبراهيم الإلغي]: إنني لم أخلق لذلك التماوت الذي يريد مني أن اندمج فيه في هذه البادية ،لأنني أدركت الحياة ، وذقت حلاوة العلم ولذة الحضارة ، وإن كان هو يقدر أن يعيش ما بقي من عمره بلا أمل علمي في باديته ، فإنني لا أقدر حتى أن أسمع ذلك ، وما أحسب هذا الامتحان الذي وقع لي بهذا النفي إلا تجربة لهذه الفطرة مني ، ليعلم هل أنا صادق أو كاذب .)
(عبد الوافي المختار السوسي –السيرة الذاتية للعلامة رضى الله محمد المختار السوسي –مطبعة المعارف الجديدة –الرباط –الطبعة الأولى 2009-ص.168).
من البديهي ،أن يركز المختار السوسي ،على العرفان والتصوف الطرقي،بالنظر أولا إلى تنشئته وثقافته وموروثه ، وثانيا إلى غلبة العرفان آنذاك رغم المنافسة الإصلاحية ولا سيما في الأرياف والبوادي.
ثم إن الرحلة ،مخصصة أصلا لحضور موسم الزاوية الدرقاوية بإيلغ والالتقاء بالفقراء الدرقاويين. ويقدم معلومات هامة ، عن الزاوية الدرقاوية ومناطق نفوذها بالجنوب وعن طقوس الموسم .ويتضمن سرده إشارات متواترة الى أرباب التصوف ،وإلى أدوارهم التربوية والعلمية في الرحاب السوسية. من الطبيعي إذن أن يذكر بأدوار سيدي سعيد الشريف الكثيري وسيدي الحاج الحسن التامودزيتي وسيدي الحاج مسعود الوفقاوي وأبي زيد التمانارتي .
ومن الضروري التأكيد على إشارته إلى خصوصية الطريقة الإلغية وتميزها حتى على الزاوية الأم بقبيلة بني زروال بجبالة.
( والحقيقة أن لأصحاب الطريقة الالغية لإخلاصا قلما أراه في مجتمع سواهم ، وقد حضرت1339 ه/1920م في موسم (بوبريح ) من جبالة وفيه أكثر من ألفي فقير ولكن لم ألاحظ منهم ما لا حظته من هؤلاء الفقراء الذين وكأنهم كلهم أفرغوا من قالب واحد ، وهذا ما أعرفه منهم والله أعلم ولا أزكي على الله أحدا ، فلا يطلع أحد على ما بين العبد وربه كما يقوله الشيخ الوالد دائما بين أصحابه ، قطعا لهم من أن يتسور منهم متسور إلى الغيب )
( المختار السوسي-رحلة من الحمراء إلى إيلغ –-292).
يأتي التذكر والتذكير ،غالبا ، في سياق عرض واستعراض أحداث ووقائع بعض الأمكنة الموحية بالتفكير والاعتبار ؛فحين يتملى تارودانت ويلاحظ تراجع دورها الاقتصادي والثقافي والعلمي لصالح مراكش واكادير ،يتأسى على مصير الحاضرة السوسية ،ويتذكر بأسى ماضيها العلمي ورجالاتها ،في الأوان السعدي خصوصا.
تتميز هذه الرحلة ،بالتركيز والإيجاز ،وتكاد تخلو من الاستطرادات،المألوفة في أسفار المختار السوسي.يكتفي الكاتب غالبا ، بسرد الوقائع وعرض الأفعال وتذكر الحوادث والشخصيات،والمقارنة لإجلاء الحادث الموصوف ونقل الايحاءات للقارئ.
يدرك المطلع على أسفار السوسي ، اهتمامه الكبير بالتعريف بتاريخ البادية السوسية وإبراز النبوغ السوسي،وإقناع أبناء الحواضر،بالديناميات الثقافية بالجنوب المغربي . ومن الطبيعي والحال هذه،أن يذكر ،عندما تسنح الفرصة، بسياقات وعلامات النبوغ الأدبي واللغوي والعرفاني ،في سوس رغم كل المعوقات المجالية والثقافية والحضارية.
و تتضمن الرحلة ،إشارات دالة على تأثير الاستعمار على ماجريات الحياة ،وعلى التصوف الطرقي نفسه،وعلى الحياة القضائية.وفي هذا السياق ،فإن موقف محمد المختار السوسي،يقف موقفا وسطا من التحديث الاجتماعي،الناتج عن الحضور الفرنسي في المجتمع المغربي.ففيما يتحفظ على بعض مظاهر الحياة القانونية الجديدة والتضييق على الصوفية،فإنه ينوه بالمنجزات التقنية للحداثة الغربية.
فكما توحي الفضاءات الموصوفة بالفخر ،فإنها توحي أحيانا ،بالتأسي والرثاء.وفي هذا السياق تمتلئ ،ملاحظات المختار السوسي عن قصبة فونتي وتارودانت ،بالشجن والأسى والحنين.ففيما تعيده القصبة إلى طفولته وإلى ما شهده أثناءها من مشاهد باعثة على الفخر في ذلك الفضاء التاريخي الحافل بالإيحاءات التاريخية والشخصيات القيادية الكريزمية ( الحاج الحسن الكللولي ) ،تحيله مشاهداته بتارودانت إلى تاريخ ولى ،والى علامات اندرست في خضم التحولات الحضارية والثقافية غير المواتية.
لا تخبر الرحلة ، عن الواقع فقط ، بل عن الذات بالدرجة الأولى ؛فهي تكشف جوانب من نفسية المختار السوسي، في لحظات الضيق.كما تعبر عن آليات تفاعله وتكيفه مع الوقائع الحياتية ،ولا سيما الوقائع الباعثة على القلق والتأسي وعلى المساءلة(الخوف من الطائرة ومن الموت ).لم تكن الرحلة هنية في كل أطوارها،بل تخللتها مخاوف ومشاهد محزنة ، ولا سيما بعد حداثة السير ومقتل أحد المارة .
( ..ثم قلت في نفسي يا سبحان الله انظر كيف يتقلب الزمان وكيف يكون ، ففي الصباح كنا في رقة الوداع وفي روعته التي لها على كل حال حلاوة إزاء تلك المرارة التي تجترعها القلوب ، وفي وسط النهار في تزنيت كنا في بهجة وأنس كبيرين ، وعند العصر حين عزمنا على زيارة تارودانت ألم بنا الاشتياق لرؤيتها من أول وهلة ، مما غمرنا سرورا واستبشارا وها نحن الآن عند غروب الشمس وقعنا في هذا المنغص العجيب الذي كان أول ما رأيته في حياتنا التي قطعنا فيها ستة وثلاثين ربيعا . )
( المختار السوسي-رحلة من الحمراء إلى إيلغ.298).
فكما تمكن الرحلة من استكشاف أجزاء من الواقع ومن التاريخ والثقافة ،فإنها فرصة سانحة للتعرف على الذات في تفاعلها مع الآخرين ، مع الواقع ، مع الآخر ومع المجهول .
إن( رحلة من الحمراء الى الغ)،نص تاريخي،حافل بمعطيات هامة ، عن مرحلة انتقالية في تاريخ المغرب،وعن انشغالات مثقف سلفي،منشغل بالكتابة التاريخية،باعتبارها أداة ثقافية ضرورية لإعادة بناء الذات وحمايتها من الغيرية ومن التثاقف القسري.كما أنه نص دال عن تعقيدات التثاقف ، بين البادية والحضارة ، بين الأنا والآخر ، بين الماضي والحاضر.كما يفصح عن تحولات الكتابة وتطويع اللغة ،للتعبير ،مراعاة للمستجدات ولأساليب التلقي ولذائقة القارئ الحديث.
إبراهيم أزروال