هذه سلسلة من الكتابات التاريخية بصيغة المؤنث لمغربيات صنعن التاريخ، وبصمن مشوارهن من خلال عملية البحث والتنقيب وقراءة الوثائق التاريخية عبر أغلب مجالات الجغرافيا، وإعادة تشكيلها بقلم الأستاذ الباحث مصطفى حمزة، الذي أغنى الخزانة المغربية بإصداراته المهمة، والتي تناول فيها مسار شخصيات كان لها الحضور القوي على مستوى التاريخ الجهوي والوطني. ولتقريب القراء من هذا النبش والبحث المضني، اختارت “أنفاس بريس” عينة من النساء المغربيات (25 شخصية نسائية) اللواتي سطرن ملاحم وبطولات وتبوؤهن لمراكز القرار والتأثير فيها فقهيا وثقافيا وسياسيا وعسكريا.
– رقية والدة المختار السوسي امرأة متاعها العلم
كثيرون هم من يعرفون، منارة سوس العالمة، ويستحضرون مكانته البارزة في كثير من المجالات الفكرية والعلمية والأدبية والوطنية… دون أن يعرفوا أمه رقية والدور الذي قامت به في تأهيل وتكوين ابنها صاحب “المعسول” والكثير من المؤلفات، التي تشكل أرشيفا لجزء مهم من تاريخ المغرب.
فابنة الأدوزي، نشأت وتربت في بيت متفتح، معروف بالكرم والجود، في الأصقاع السوسية، فقد كان صاحبه (العلامة محمد بن العربي الأدوز) «سهل لين أريحي لا يتشدد، ولا يحب من يتشدد، ولا من يتشدد على العامة،… منكر خصال البخل وجاحدها… فكان لا يرى على مائدته إلا القمح مع ندوره في الجبال…»، يقول صاحب طاقة ريحان من روضة الأفنان.
لم يكن التفتح والكرم وحدهما، هما ما زاد البيت الذي تربت رقية، توهجا بين أسر سوس العالمة، بل انضاف إليهما ما عرف عن صاحبه من «زهد ونسك، وإقبال على العلم والدين ومنابذ للبدعة وأهلها…»، يضيف حفيده.
داخل هذا الفضاء المغربي الأصيل، المتفتح والمتشبع بقيم النبل ومكارم الأخلاق، والوسطية والاعتدال، والإقبال على العلم ومناهضة البدع، نشأت وترعرعت رقية أم محمد المختار السوسي وكلها استعداد لاستلهام قيم مجتمعها، والتبحر في معارف رجالاته.
فقد عكفت ابنة الأدوزي، على دراسة القرآن حتى «ختمته سبع ختمات، وجودته غاية التجويد،…»، يقول الأستاذ الباحث مبارك لمين.
نباهة ابنة ” أدوز” وقدرتها الفائقة على التحصيل، وجدت لها صدى عند والدها العلامة المتفتح في «أن يدخل بها إلى طور العلوم»، يضيف الأستاذ مبارك لمين. لكن شغف رقية بالدراسة والتحصيل، ورغبة والدها في الدخول بها إلى طور العلوم لم يكبحهما سوى زواجها المباغت وهي في سن المراهقة.
لم تحمل ابنة الأدوزي (العروس) من متاع، وهي تمتطي صهوة البغلة التي ستحملها إلى بيت زوجها (العريس) بإليغ، سوى لوحتها، مما يترجم عزمها على المواظبة في طلب العلم ببيت الزوج، غير عابئة بهبة العرس ونشوته، يقول الأستاذ مبارك لمين.
طموح رقية في طلب العلم وتلقينه لم يحد منه بيت الزوجية، رغم أنها كانت تستخدم من قبل زوجها الحاج علي الدرقاوي «كما تستخدم الزوجات الأخريات» يقول محمد المختار السوسي، فكانت «أول معلمة من النساء في إليغ، مهذبة البنات في دارها، كانت تمجد لولدها العلم وأهله»، يضيف الأستاذ مبارك لمين.
لم يكن أمل رقية، وهي تمجد لولدها العلم وأهله، سوى أن تراه بحرا زاخرا يفيض علما ومعرفة، وهو ما يؤكده عالم سوس في الجزء الثالث من المعسول بقوله: “أول ما أعلنه عن والدتي هذه، أنها هي التي سمعت منها بادئ ذي بدئ تمجيد العلم وأهله… فكان كل أملها أن تراني يوما ما ممن تطلعوا من تلك الثنية، وممن يداعبون الأقلام، ويناغون الدفاتر”.
أمل رقية، رفيقة الفقيرة ماماس، لم يخب، وطموح ابنها لم ينضب، فقد «طلع علينا السعد بطلوع الشيخ أبي شعيب الدكالي»، يقول محمد المختار السوسي.