بسم الله الرحمن الرحيم
محمد المختار السوسي في الدار البيضاء [1]
أ.د. محمد خليل
أستاذ باحث
قدر لمحمد المختار السوسي أن يدخل مرحلة الترحال في سن جد مبكرة من عمره، ذلك أنه بدأ رحلة التعلم وهو في التاسعة من عمره. فبعد أن افتتح مرحلة حفظ القرآن الكريم في بيته على يد والدته[2] حمله والده في شهر محرم من سنة 1327هـ ( فبراير 1909م) صحبة أخويه أحمد والحبيب إلى قرية (العركوب) بـ ( إيغير ملولن)[3]. وهو ما يزال في مرحلة حفظ القرآن الكريم. وبهذه الرحلة دشن مرحلة رحلاته العلمية بسوس، التي شملت كتابين قرآنيين[4]، وثلاث مدارس علمية[5]، إضافة إلى المدرسة الإلغية التي توجد بقريته ( دوﮔادير ).
ولما بلغ سن الثامنة عشر، بدأ رحلة طلب العلم إلى خارج سوس، وهي المرحلة التي استغرقت حوالي إحدى عشرة سنة، وشملت المناطق الآتية:
1 ) مدرسة الساعدات (أولاد بوالسباع. أحواز مراكش). سنة واحدة.
2 ) جامعة ابن يوسف (مراكش). خمس سنوات.
3 ) جامعة القرويين (فاس). أربع سنوات.
4 ) مدينة الرباط سنة واحدة.
بعد مرحلة طلب العلم، استقر السوسي بمدينة مراكش. وبذلك فتح صفحة جديدة في حياته، كان في مقدمة اهدافه التي نوى تحقيقها: أداء ما عليه من واجب نحو وطنه. سواء من حيث المساهمة في نشر التعليم وتطويره، أو من حيث العمل على توعية المواطنين بضرورة توحيد الصفوف من أجل تحرير الوطن من الوجود الاستعماري… الخ. وهي النية/العزيمة التي شغلت بال كثير من رفاقه في الدراسة، وخاصة منهم زملاؤه في جامعة القرويين. وبالمناسبة تجدر الإشارة إلى أن صاحبنا تأثر إلى حد بعيد بجو فاس العلمي والثقافي والوطني النهضوي[6].
بيد أن الأنشطة التي انخرط فيها وبقوة، فور حلوله بالحمراء ـ وهي العبارة التي يحلو له استعمالها عند حديثه أو ذكره مدينة مراكش ـ لم تترك المحتلين يسكتون عنه أو يغضون الطرف عن أعماله وممارساته التي كانوا يرون فيها خطرا على وجودهم في المغرب، وذلك على غرار نخبة من رجال الحركة الوطنية السياسية التي كان السوسي أحد أوائل مؤسسيها بفاس سنة 1344هـ/1926م[7]. ولذلك قدر له أن يقوم بعدة رحلات/تنقلات اضطرارية عبر عدة مناطق من المغرب، بدأت سنة 1356هـ/1937م. وانتهت بحصول المغرب على الاستقلال سنة 1375هـ/1955م. وهي:
1 ) مرحلة النفي إلى مسقط رأسه بـ: ” إلغ “، دامت تسع سنوات.
2 ) مرحلة العودة إلى مراكش للاستقرار بها من جديد، دامت خمس سنوات.
3 ) مرحلة الرحيل/الالتجاء إلى الدار البيضاء للاستقرار بها، ودامت سنتين.
4 ) مرحلة الاعتقال بـ: ” تينجداد ” ثم بـ: ” أغبالونكردوس “، دامت سنة وسبعة أشهر.
4 ) مرحلة العودة إلى الدار البيضاء بعد الإفراج عنه من السجن. دامت سنة وخمسة أشهر
6 ) مرحلة الانتقال إلى الرباط والاستقرار بها بعد حصول المغرب على الاستقلال. اسغرقت السنوات الثماني الأخيرة من عمره.
هكذا يتبين لنا من هذا أن محمدا المختار السوسي، عاش زمنا من حياته بالدار البيضاء، هذه المدينة التي كانت له علاقة قديمة بها. إذ سبق له أن زارها قبل التجائه إليها عدة مرات.
1 ) كانت أو ل زيارة له إلى هذه المدينة سنة 1339هـ/1921م. وهو في الواحدة والعشرين من عمره، وهو في السنة الثانية من مقامه بمراكش، وكان ذلك في رحلته إلى ” بني زروال ” لزيارة زاوية الشيخ العربي الدرقاوي. وفي طريقه عرج على عدة مدن، وفي ذلك قال: « وفي عام 1339هـ خرجت صباحا أودع عبد العزيز الفاسي، ومولاي المهدي الجبلي المراكشي ـ وقد كنت معهما ومع أستاذنا القاضي ابن الحسن في رفقة دائمة ـ وكانا يقصدان فاسا، فإذا بهما عند السيارات أركباني، ولم أصطحب معي لا كسوة و لادرهما، فعرجنا على الجديدة فالبيضاء ففاس ثم إلى موسم مولاي العربي الدرقاوي، فرأيت إذ ذاك عالما آخر، وزرت مولاي عبد الرحمن الدرقاوي، ثم أكدني كثيرا على العلم، ثم رجعنا أدراجنا، ثم أديت بعد ذلك واجبي من نفقات السفر بعت فيه كتبي، لأنني ما كنت أحسبني مؤديا، إذ ما سافرت إلا ملزما. ولكن حين سئلت عن ذلك أديت في الحين، فكان ذلك درسا لي في المستقبل. وما أكثر أمثال هذه الدروس التي استأصلت فيها من نفسي الإشراف إلى بنات جيوب غيري كابن زاوية »[8]
2 ) تكررت زياراته إلى الدار البيضاء خلال مرحلتي دراسته بمدينتي فاس والرباط، اللتين دامتا من بداية سنة 1343هـ ، إلى نهاية سنة 1348هـ (غشت 1924م/ يونيو م1929). وذلك نظرا لكون الدار البيضاء معبرا ضروريا له خلال تنقلاته في مرحلة الدراسة بين مسقط رأسه وهاتين المدينتين. بيد أن لقاءاته مع سكان هذه المدينة كانت مقتصرة في هذه المرحلة على السوسيين المقيمين بها، خاصة وأنه يعد ابن شيخ الطريقة الدرقاوية الذي ذاع صيته ليس في سوس وحدها ولكن في كثير من مناطق المغرب، فضلا عن كونه ينحدر ـ كما هو معلوم ـ من منطقة سوسية قريبة من ” تافراوت ” التي هاجر منها كثير من أبنائها إلى الدار البيضاء وتعاطوا التجارة التي نجحوا فيها إلى حد كبير بعيد شروع هذه المدينة في استقطاب رجال الأعمال المغاربة مسلمين ويهودا، وأيضا رجال الأعمال من مختلف الجنسيات الأجنبية. ولهذا السبب كثر معارفه وأحباؤه في هذه المدينة.
3 ) في مرحلة مقامه بمراكش معلما ومربيا ومجاهدا، والتي اسغرقت ثماني سنوات كاملة، أي من بداية سنة 1348هـ إلى نهاية سنة 1355هـ (يونيو 1929م/ مارس 1937م)، كثر تردده على مختلف الحواضر والمدن المغربية، وذلك بهدف تحقيق أهداف رجال الحركة الوطنية في نشر الوعي الوطني، وتنظيم الخلايا السياسية…الخ. وكانت تنقلات السوسي عبر مختلف المناطق المغربية تسعى بصفة خاصة إلى حمل وإقناع النخبة من العلماء والوجهاء وحتى من رجال السلطة المغاربة[9] على إنشاء المدارس العصرية الحرة لفائدة أبناء الشعب، لتلقن فيها العلوم العصرية باللغة العربية، ولتسعى إلى تكوين أطر وطنية عليا متشبعة بالثقافة العربية الإسلامية، فتكون بذلك كله منافسة للمدارس المفرنسة اللغة التي كانت إدارة الحماية تنشؤها، وكانت تسعى إلى حصر مهمتها في تكوين الأطر الصغرى التي تحتاج إليها في تسيير إدارتها. وكان من أصدقائه البيضاويين الذين بادروا مبكرا إلى الإشراف على هذا النوع من المدارس: الأستاذ ” الفقيه محمد الحمداوي ” مؤسس مدرسة ” الأميرة للا عائشة “[10]. فضلا عن مساعيه الدؤوبة من خلال هذه التنقلات إلى دعم ونشر أفكار الحركة الوطنية الهادفة إلى مطالبة إدارةالحماية بإدخال وإنجاز إصلاحات سياسية واجتماعية واقتصادية في البلاد. ولهذا الغرض زار محمد المختار السوسي مدينة الدار البيضاء مرات ومرات.
4 ) وفي مرحلة نفيه إلى مسقط رأسه بـ: ” إلغ ” لم تنقطع صلته بالدار البيضاء. فهذا تلميذه ومدير ديوانه ـ لما كان وزيرا للتاج ـ يتحدث عن زيارة للسوسي إلى الدار البيضاء فيقول في مقدمة كتاب: ” إيليغ قديما وحديثا ” بأن رواج توقيع وثيقة 11 يناير 1944 في مراكش، صادف وجود محمد المختار السوسي في تادلة « بترخيص من حاكم بلده عند مريد والده سيدي إبراهيم ابن البصير المتوفى عام 1364 (ص38 ج12 المعسول) ولكنه انفلت إلى الدار البيضاء ونزل عند الفاضل المرحوم سيدي أحمد بن إبراهيم الحاحي صهر أحمد السوسي الذي بنى جامع درب الكبير بالدار البيضاء، وجعله إماما به. وكان الأستاذ [المختار السوسي] يلبس إذ ذاك حذائين نعلهما من الصوف وخنيفا غليظا خشنا أسود ومتعمما بعمامة يتحنك ببعضها على عادة أهل ما يجاور ” إلغ ” من الصحراء لكي لا يعرف، وكنت آتيه بجرائد ذلك العهد كالسعادة والوداد. وأحمل إليه ما تجدد من الأخبار, وكان قد ترك وثيقة الاستقلال تروج للتوقيع بمراكش، فإذا بالقضية تتطور، وإذا بفرنسة تمد اليد في الناس، وإذا بها تحمل الرئيس أحمد بالافريج إلى كورسيكة، فلما وردت على الأستاذ عند الزوال وحملت إليه ما تجدد من الأخبار خاف أن تبحث عنه مراقبة منفاه فتجده بالدار البيضاء، فتمنى لو كان له جناحان ليطير بهما، وتأمل مليا ثم قال لي كلمة تدل على فراسته ولم تلبث الأيام أن صدقتها: قال: ” قد قضي الأمر وتفرقعت القنبلة، فقد كانت فرنسا تحاول أن تخلق بين المغاربة من يقبل أن يفاوضها على شيء مما دون الاستقلال، كبعض الإصلاحات الداخلية. أما الآن وقد قيلت كلمة الاستقلال، فكل من يقبل أن يتفاوض على ما دونها سيراه الشعب المغربي خائنا استعماريا،[ ولن يتأخر الاستقلال أكثر من عشرين عاما… ثم سرد كيفية عودته سريا إلى منفاه]»[11].
كما زار الدار البيضاء زيارة علنية، بعد حصوله على ترخيص من سلطات الحماية بتافراوت. يسمح له بزيارة شمال المملكة، و كان ذلك قبيل صدور قرار الإفراج النهائي عنه. وفي الحديث عن هذه الرحلة يقول محمد المختار السوسي: « بعدما أدينا للحمراء بعض حقوقها الواجبة وقضينا بعض ما لها علينا كأبناء بررة، ومراكشيين أقحاح، ولينا الوجهة إلى الرباط مارين بالدار البيضاء لا مرور الكرام بل مرورا بالكرام، فنزلنا العاصمة، وقد وجدنا إزاء محطة القطار عربة في انتظارنا ثم نزلنا على الحزب ورجال الحزب، فتوافد الإخوان الرباطيون عن إذن الحزب يهنون بالتسريح […]»[12]. ثم امتد به السفر إلى مدن أخرى ومنها فاس، ويقول بأنه عند العودة إلى سوس: « مررت بالرباط، حيث أقمت ما أقمت ثم حللت بالبيضاء حيث اتصلت بصاحبنا الأديب محمد الروداني وإخواننا الوطنيين الأعزاء »[13].
أسباب رحيله إلى الدار البيضاء سنة 1950م:
لما عاد المختار السوسي ثانية إلى مراكش في خريف سنة 1945م استأنف نشاطه المعهود فيه منذ إقامته بالحواضر، وخاصة منذ حلوله واستقراره بمراكش سنة 1929م. ومن أهم أعماله خلال مقامه الثاني بمراكش، إي: خلال هذه المرحلة التي سبقت رحيله الاضطراري منها إلى الدار البيضاء نذكر:
1 ) إعادة فتح مدرسته الحرة بحي ” الرميلة “. وقد سبق لسلطات الحماية أن أغلقتها في صيف سنة 1938م. أي بعد مرور خمسة عشر شهرا على نفيه. « فنشطت الدراسة فيها من جديد، وكعادة مدرسة الرميلة في نظام دراستها، فإن التلاميذ كانوا موزعين على ثلاث طبقات، إلا أن طبقة المتقدمين لم تنتعش كثيرا في هذه المرحلة، وكانوا ـ كعادة المدرسة ـ منتمين إلى أقاليم مختلفة »[14]. هذا في الوقت الذي استطاع فيه إقناع عدد من قواد إدارة الحماية بإنشاء مدارس مماثلة. وقد أنشيء منها:
ـ مدرسة القائد العيادي بمراكش.
ـ مدرسة القائد الكندافي في نفيس.
ـ وعد الباشا الكلاوي ببناء أربع مدارس في كل من: درعة وتلوات، وتاليوين، ومسفيوة. على أن يتولى المختار السوسي تسييرها ويتولى الكلاوي الإنفاق عليها، بيد أنه لم يف بوعده، وقد شرح السوسي سبب ذلك بقوله: « الا أن أحد مسامير مائدته سمعه يذكر ذلك يوما، فقال له: نصيحة يا سيدي لا تصغ لكلام فلان لئلا يفسد ما بينك وبين (فرنسة)، ثم أتبع ذلك بكلام حتى أفسد نيته، وكذلك كانت أعمالي كلها في المعارف، ولا ريب أن الفرنسيين يعرفون كل شيء، فحقدوا عليّ حقدا عظيما، فبلغني كل ذلك، فكنت أحسب حسابه، ثم بدا في جو بعض طلبتي فكرة أخرى ترمي إلى الإلحاد صدرت من بعض الزعماء في (مراكش) فقمت وقعدت لذلك، فصرت أتأفف من جو (مراكش) من هذه الأمور كلها »[15].
2 ) عاود إعطاء دروسه العلمية العمومية في مساجد المدينة، وخاصة مسجد باب دكالة القريب من مدرسته، ولقيت من الإقبال ما جعل ولاة الأمور في المدينة يشددون عليه الرقابة، ويتخوفون من تأثيرها على روادها الذين كانوا ينتمون إلى مختلف الطبقات والشرائح الاجتماعية.
3 ) بعد عودته هذه بحوالي سنتين، دعا إلى تأسيس جمعية تكفلت ببناء مدرسة ” محمد الخامس ” بحي ” رياض العروس ” التي دشنها الملك محمد الخامس في شهر أبريل سنة 1950م. « وقد لاقى [السوسي] في سبيل الدعوة إلى تكوين هذه الجمعية، وكذلك في عملية تنفيذ مشروعها الثقافي والاجتماعي ما لاقاه من عنت، ومضايقات، خلال سنتي 1936 و1937 حينما أشرف على تأسيس وتسيير الجمعية الخيرية، وكانت مواقفه المتصلبة مع سلطات الحماية إحدى الأسباب التي جعلتها تعرقل أعماله، وتحذر من نشاطه، وتهيء الفرصة السانحة لاعتقاله من جديد، خاصة وأن بوادر الأزمة الكبرى التي انتهت بخلع محمد الخامس عن العرش بدأت تلوح في الأفق، بل وتطغى على غيرها من الأحداث »[16].
4 ) استأنف نشاطه الوطني السياسي ـ على عادته ـ ، خاصة وأن الحركة الوطنية في مراكش انتعشت، واندمجت في نسيج هذه الحركة على الصعيد الوطني. الأمر الذي جعله يتوقع في كل لحظة أن يصدر في حقه قرار نفيه عن مراكش من جديد، أو قرار اعتقاله. وهو إن لم يكن يخش الاعتقال، فإنه كان يخشى أن ينفى من جديد إلى مسقط رأسه، فيعيش هناك ـ مرة أخرى ـ حياة الوحدة والبعد عن أصدقائه ورفاقه في الكفاح.
5 ) توترت علاقة الباشا الـﮔـلاوي بالملك محمد الخامس رحمه الله، الأمر الذي أدى بجلالته إلى طرد الـﮔـلاوي من القصر الملكي بالرباط، خلال حفل استقبال رسمي بمناسبة إحياء ذكرى المولد النبوي الشريف لسنة 1370هـ ( أكتوبر 1950م). مما أثار حفيظة الباشا والفرنسيين معا، وفي ذلك يقول السوسي: « فقد شرع الفرنسيون يوعزون إلى القواد أن يزوروا الـﮔـلاوي بمراكش، فصاروا فرادى ينتابونه، فصارت الشبكة تحاك، ففي هذا الجو ثار ثائري أنا، وقد أقنت دورا جديدا سيمثل في المغرب، فقلت : إن كان لا بد من اعتقال فليكن إلى غير ” إلغ “»[17]
6 ) وقعت اضطرابات في مراكش أدت إلى عزم المراكشيين على رفع عريضة احتجاج واستنكار لتصرفات السلطات الفرنسية واشترط المراكشيون أن يكون أول الموقعين عليها هو: محمد المختار السوسي حتى يتمكن أكبر قدر ممكن من التوقيع بعده، إذ بدون ذلك لن يتم تحقيق النجاح المأمول لهذه العملية/الحملة، وقد كان آخر عمل قام به قبل رحيل بدقائق توقيعه على هذه العريضة وتم ذلك بمنزل أحد كبار أصدقائه: مولاي أحمد المنجرة[18].
حلوله بالدار البيضاء:
اتخذ السوسي كل الإجراءات الكفيلة برحيله إلى الدار البيضاء، وذلك قبل توقيعه للعريضة الآنفة الذكر، وكان ذلك بتنسيق تام مع رجال الحركة الوطنية في كل من مراكش والدار البيضاء. فبعد توقيعه إياها ليلا توجه مباشرة إلى الدار البيضاء على متن سيارة أحد الوطنيين[19]. وقد سبق أن ساعده الوطنيون البيضاويون على كراء مسكن نقل إليه أسرته خفية ثم التحق بهم في شهر جمادى الثانية 1370هـ (فبراير 1951م). وعن انعكاس هذا الرحيل على ولاة الأمور في مراكش يقول السوسي: « وفي آخر يوم غادرت في (الحمراء) سأل عني الأﮔـلاوي فقيل له: إنه ارتحل، فقال: مكث إلى الوقت الذي نحتاج إليه فيه فأفلت من أيدينا ؟، وكذلك الجنرال (دوتفيل) حاكم ناحية (مراكش) أثر فيه ارتحالي كثيرا حين ذهبت هذا المذهب، لأنه يعرف أثر ذلك في الأوساط. وقد روج حديثي مع كثيرين ممن يعرف اتصالي بهم »[20]. ويتضح من هذا كله، أن السوسي اتخذ الكثير من الاحتياطات عندما قر عزمه على رحيله هذا ، وذلك بتنسيق تام مع رجال الحركة الوطنية في المدينتين. واستطاع أن يدبر كل شيء في سرية تامة. الأمر الذي جنبه الوقوع في المعاناة التي نتجت عن نفيه الأول عن مراكش سنة 1355هـ/1937م.
نشاطه في الدار البيضاء ونتائجه:
1 ) تـربويا
دشن نشاطه بتعاطيه التعليم ـ كعادته دائما ـ اقتناعا منه أن هذا المجال هو السبيل الوحيد لتحقيق القسط الوافر من توعية الشعب، لأنه لا يمكن تحقيق أية نهضة ولا يمكن تحقيق الاستقلال والأمية منتشرة، والجهل باسط أجنحته على السواد الأعظم من الأمة. وهو يحدثنا عن قيامه بذلك بقوله: « لم أكد أستقر بـ(البيضاء) حتى راجعت عملي في التعليم العام، فالتف أيضا حولي طلبة سرعان ما وصلوا إلى 70 زيادة على صغار، وقد اتخذت أولا مركز تدريسي المسجد المحمدي، ثم استقررت في المسجد الذي بناه الفاسيون إزاء (درب ابن العالية)، حيث أقطن في دار اكتراها لي الحاج إبراهيم التملي التاجر المشهور، وقد ألقي فيه بعض الدروس في الأوقات التي لا أذهب فيها إلى المسجد »[21]. وهكذا كرر محمد المختار السوسي في هذه المدينة سلوكه الذي عرف به طيلة مقامه في مراكش، خاصة وأن عددا من طلبته في مراكش التحقوا به، واستطاع ـ كعادته ـ أن يتكفل بجميع لوازمهم، من مأكل وملبس ومسكن. مستعينا في ذلك بجماعة من تجار المدينة الذين يسارعون إلى تلبية طلباته المتعلقة بتكفل كل واحد منهم بما يستطيع من الطلبة. فص
فضلا عن كونه يتحمل شخصيا نفقات إيواء عدد منهم، لدرجة أنه لما ألقي عليه القبض فنفي إلى معتقل ” أغبالو نكردوس” بتافيلالت، بقي 14 طالبا يقطنون في بيته مع أبنائه الذين كان عمر أكبرهم لا يتجاوز ثلاث عشرة سنة. وأوصى أهل بيته بأن يبقى هؤلاء الطلبة في بيته وأن يعدوا أنفسهم كأن شيئا لم يقع وأن أستاذهم ما زال موجودا معهم[22].
2 ) توجيهيـا
كان حريصا على إعطاء دروس دينية وتوجيهية عمومية في المساجد بعد صلاة الصبح وما بين العشاءين، وسرعان ما نالت هذه الدروس شهرة واسعة على صعيد المدينة « حين يجتمع الجم الغفير من الناس حتى يكتظ المسجد »[23]. الأمر الذي حمل الإدارة الاستعمارية على تكليف فرق من الجواسيس والمخبرين لتتبع نشاطه وحضور دروسه، وسرعان ما بدأوا يستدعونه من حين لآخر للاستجواب والاستنطاق، ذلك « أنهم يعلمون كيف يكبر الناس ويستعظمون هجرتي من بلد يحكمه من هو ضد الملك، بل صرت إحدى المتكئات التي يتكيء عليها بعض المهاجرين من طلبة (مراكش) الذين بالغ من في (مراكش) في إهانتهم حين جلد كثيرين منهم حتى مات أحدهم بعدما بلغت به السياط مبلغها، فيما ذكر لنا، ولكنني وأنا أعرف ما أصنع ماض في شأني، عازم على أداء المهمة التي استطعت أن أنفع بها شعبي منذ أن ملكت أمر نفسي في (مراكش)، هذا الشعب الذي رفع من شأني وكساني وأطعمني، وأسكنني، بل وهيأ لي في البيضاء أن أبني دارا أملكها وهي الدار الوحيدة التي دخلت تحت ملكي في ماضي عمري، وذلك بعد نحو سنة من هجرتي هذه، أفلا يهتم مثلي بمثل هذا الشعب الكريم ؟ »[24]. وهكذا تحمل كل ذلك برباطة جأش، وبعزيمة صلبة. غير مستسلم لمختلف الضغوط والتهديدات التي كانت تمارس عليه من الإدارة، قصد ثنيه عن أداء مهمته التي يصر أمام المستعمرين وأذنابهم على كونها مجرد تعليم المواطنين شؤون دينهم من خلال دروسه في المساجد، وتعليم الطلبة اللغة العربية وعلوم الدين الإسلامي. وقد حكي لي أنه لما عزم على الشروع في إلقاء درسه الأول بمسجد الحفاري فور الانتهاء من بنائه، جاء عنده أحد القيمين على المسجد وحاول منعه من ذلك فثارت ثائرة الحاضرين فاضطر القيمون على المسجد إلى الرضوخ لضغوط الجماهير المصرة على رفض أي عالم آخر يعين في هذا المسجد مكان المختار السوسي.
وفي هذا الجانب كان يتردد على عدة مساجد، وفي مقدمتها: المسجد المحمدي بحي ” الأحباس “، ومسجد ” ولد حبيبة ” بحي بوشنتوف، ومسجد ” الحفاري ” بحي بن العالية، وكان قريبا من مسكنه.
3 ) سـيـاسـيـا:
كان على اتصال دائم برجال الحركة الوطنية في المدينة، وكان متألقا في حسن إخفاء الكثير منها على عيون المخبرين الذين والجواسيس الذين كلفوا بتتبع كل حركاته وسكناته. فهو دائم التنقل بين مختلف الخلايا. ولكنه مقدرته على إحاطة تلك التنقلات بالسرية التامة كانت فوق ما كان أعوان إدارة الحماية يتحلون به من الدهاء ومن المكر، لما كانوا يلازمونه في دروسه وفي غيرها. بيد أنهم عجزوا عن إثبات ” التهمة عليه “. على الرغم من أنه لم يكن يومه يخلو من التحرك في هذا الشأن، للاتصال بالخلايا السرية التي كانت محكمة التنظيم وموزعة عبر مختلف أحياء المدينة. وكان السوسي يحضر الاجتماعات، مستعملا في تحركاته وسائل وحيلا كان يستطيع بها الإفلات من المراقبين والجواسيس المسخرين لتتبعه.
وهكذا كانت علاقاته واجتماعاته بأعضاء كثير من الخلايا الحزبية على الخصوص شبه يومية. أمثال السادة: الهاشمي الفيلالي، وبوشتى الجامعي، ومحمد الحمداوي، ومحمد هرواش الباعمراني، وحميدو فارس الوطني، والشرايبي، ومكوار…الخ.
***
اعـتـقـالـه:
لم يمهل الفرنسيون محمدا المختار أكثر من 22 شهرا، لينفذوا في حقه قرار الاعتقال الذي جاء على إثر الاضطرابات التي عرفتها المدينة في شهر دجنبر 1952م. إثر اغتيال الزعيم النقابي التونسي (فرحات حشاد) وهو يتحدث عن ذلك فيقول: « جاء يوم الإضراب من أجل اغتيال الزعيم النقابي التونسي (فرحات حشاد)، وكان ذلك يوم الأحد، وفي يوم الإثنين ابتدأت الاعتقالات، فاعتقل الأخ المجاهد السيد (الهاشمي الفيلالي) ونظراؤه بـ (الدار البيضاء) ثم توالت الاعتقالات في جميع نواحي (المغرب) […] وفي صبيحة يوم الأربعاء، تهيأت لمثل ما أصاب الإخوان، وأنا موقن أنني أحدهم، وقديما قيل:
مـن حلـقـت لحـيـة جـار له فـليسكب الـماء عـلى لحيتـه
أصبحت أوصي من أريد توصيته على الأهل والصبيان الذين خلفتهم ورائي كزغب القطا، وقد كنت آخذ كراء الدار التي بنيتها في سيدي معروف كراء يقوم به أود العائلة، فذهبت بعد الغداء، فوصلت بين المكترين وبين من خلفته وصيا على الدار، ثم مررت بالدار، فلبست جبة غليظة ووضعت فوقي سلهاما غليظا، ودفعت للسيدة كناشة لا أريد أن أصاحبها معي وذلك من غير أن أقول لها شيئا على عادتي في مثل هذه المواقف، حفظا لها مما يحصل للعارف بالأمور من الهموم المخيمة من توقع الحوادث قبل وقوعها، ثم خرجت مع التلميذ النجيب سيدي (أحمد المسفيوي) […] الذي ما كان يفارقني إذ ذاك، فيسايرني دائما حيث أذهب، فمررنا بزقاق فإذا بالجاسوس (المسكيني) […] وكان يثافنني ويتحيا لي، فقال: إنني اليوم في رخصة، وليس عندي أدنى خبر عما يقع […] ثم تجاوزناه، فصرت أثرثر بكل رباطة جأش مع صاحبي المسفيوي وأقول له: أرأيت أننا نعيش الآن في حوادث خطيرة سيكون لها فيما بعد اليوم صدى عميق في التاريخ، فربما تستدعى بعد ثلاثين سنة لتلقي محاضرة عما يقع الآن في هذا الطور الخطير الذي يمر به (المغرب)، فاستحضر أنك كنت مع (المختار) فشاهدت منه الممازحة وعدم المبالاة بما يموج حواليه، وقد استسلم لما يكون، حتى إن وجهه كما ترى ليقطر بشرا، فهكذا صرت أداعبه حتى وصلنا دار الأخ الأستاذ (الحمداوي) […] فهناك فارقت صاحبي (المسفيوي)، فدخلت إلى الأستاذ (الحمداوي) وقد كنت زرته صباحا في مدرسته حيث أرسلت كلمة هاتفية إلى أخي (عبد الرحمان) بـ (مراكش) ليحضر عند الأولاد في أول يوم يصدمون فيه بابتعاد والدهم تهدئة لهم، وعسى أن يروح عليهم ليهدأ الأهل قليلا، وإن كان في الله وحده كفاية ﴿ أليس الله بكاف عبده ﴾، ثم إننا أنا والأستاذ جلسنا نتساءل عما كنا نتوقعه معا، وقد قربت صلاة العصر، ونحن في إحدى غرف الدار العليا، وبين أيدينا صينية الأتاي، فإذا بجرس الباب يرن فأطل مطل فإذا بالبوليس، فحقت الحاقة، ونزل ما كان متوقعا، وما له من دافع »[25].
هكذا قدر للمختار أن يعيش من جديد حياة الاعتقال، التي ابتدأت حوالي الساعة الثالثة بعد زوال يوم الأربعاء 22 ربيع الثاني 1372هـ الموافق لـ: 10 دجنبر1952م. لكن حياة اعتقاله في هذه المرة كانت حياة سارة بالنسبة إليه، لأنه قضى القسط الأوفر من مرحلة السجن رفقة أصدقائه وإخوته في الكفاح، عكس محنته في سنوات الثلاثين والأربعين التي قضاها في بادية سوس بعيدا عن الجو الذي ألفه منذ حلوله بفاس طلبا للعلم كما سبقت الإشارة إلى ذلك[26].
وصف المختار السوسي كيفية نقله إلى المعتقل بقوله: « بدأت السيارة تقطف بنا وأنا ألتفت إلى الأخ الحمداوي وأقول له: الحمد لله الذي هيأ لنا بفضله أن تسير فينا الحوادث كما تسير في المصلحين والأنبياء والساعين في المصلحة العامة، ثم ألقيت على لساني هذه الآية: ﴿ وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد ﴾، ثم بعد تكلمنا قليلا التفت إلينا الحارسان الفرنسيان اللذان يركبان معنا فأمرانا بالصموت، وقد كنت أرى شبانا أقوياء كثيرين من الفرنسيين عند ركوبنا السيارة يموجون حولنا بكل قوة فقلت: هكذا كان شباب العرب حين كانوا يحتلون بلاد الفرس والروم والقبط في أول الاسلام، فهل نعيش حتى يسترجع العرب والمسلمون قوتهم فينشطون هذا النشاط بكل عزة وقوة؟ […] ثم بعد نحو ثلث ساعة في مركز الرباط خرجوا بنا[…] فإذا بنا إلى مكناس[…] فدخلنا إلى محل وسط فيه كراسي من عود، فوجدنا الأخ أبا المزايا إبراهيم الكتاني والأخ السيد أحمد مكوار، والأستاذ سيدي محمد ملين[…].
مكثنا هناك في صموت إلا بعض الهمسات[…] وقد طلبنا ماء الشرب فلم نؤت به[…] وقد طلبنا القهوة والخبز وبعد أن وعدنا بهما كان الرفض هو الجواب الأخير[…].
وفي نحو الثانية بعد منتصف الليل، أمرنا بالقيام فجمعنا اثنين اثنين في جامعة، يد هذا إلى هذا فكان من نصيبي شاب من مكناس ذكر لي أن اسمه (فضول) وأنه أخذ من القرويين، فركبنا ثلاث سيارات ونحن ثلاثة عشرة]…فطلع علينا الفجر قبل وصولنا إلى ميدلت[…] وأمامنا وخلفنا سيارات جيب فيها الحرس ومعهم آلات الاتصال مع المركز[…] ثم لما دخلنا قصر السوق وجدنا جدرانا حمراء، وجوا صافيا، وسماء زرقاء فعراني ابتهاج بهذا المنظر المبهج في هذا الفصل فتفاءلت خيرا، ثم لمحنا سيارات جيب كثيرة مصطفة في جانب المركز فلم ندر المقصود بها.
أمرنا بالنزول، ثم وقفنا صفا واحدا وقد بلغ بنا الإعياء والسغب والسهر مبلغا عظيما، ولم يطل بنا الوقت حتى استدعينا لنمثل أمام الجنرال الفرنسي رئيس ناحية تافيلالت، فاصطففنا أمامه، ونحن بجامعاتنا، فقال لنا كلاما لينا لطيفا محصله: […] أن الحكومة لا تقصد تعذيب أحد منكم وإنما هذا السجن سياسي[…] فهكذا عرفنا إلى أين نحن سائرون، وكنا على بصيرة في مصيرنا، ثم خرجنا من عنده فأعطي كل واحد منا خبزة فرنجية مستطيلة […].
بعدما استرحنا نحو نصف ساعة […] وقف مناد ينادي: أين فلان؟. فيتقدم من ينادى باسمه لمن جاء يتسلمه من المكتب الذي سيذهب إليه، وهكذا، وحين نودي باسمي تقدمت فسلمني فسيان (ضابط صغير) جاء من مركز (تينجداد)، ثم ذهب بي إلى سيارة جيب من تلك السيارات المصطفة المذكورة، فوجدت في السيارة عونين بسلاحهما وهما مسلمان […] فدخلنا المركز وقد حان وقت العصر.
مثلت أمام الرئيس […] فما عدا أن كتب حالتي المدني […] ثم ذهب »[27].
قضى المختار مدة تسع أشهر في معتقله بـ(تينجداد) وحيدا، « عرف خلالها أصنافا شتى من المعاملات: فمن حرمانه من الخروج من ” زنزانته “إلى تمتيعه بالحركة وبالشمس لمدة نصف ساعة فقط صبحا ومثلها مساء، إلى رفع المدة لساعتين أو ثلاث في اليوم. ومن حرمانه من المطالعة وحجز جميع كتبه إلى الترخيص له باستردادها، ومن مراقبة دقيقة لمشترياته ومصاريفه إلى تأمينه على دراهمه والترخيص له بصرفها كيف يشاء على يد عون معين، إلى غير ذلك من أنواع المعاملة »[28]. ثم بعد ذلك نقل إلى معتقل ” أغبالو نكردوس ” حيث كان يوجد حوالي الخمسين من إخوانه المعتقلين الذين قضى معهم المدة المتراوحة ما بين يوم 27 ذي الحجة 1372هـ (07 شتنبر 1953م) ويوم الإفراج في 09 ذي القعدة 1373هـ (10 يوليوز 1954). وبهذا تكون المدة التي قضاها في معتقلي ” تافيلالت ” عاما وسبعة أشهر بالضبط. وقد كان ثاني معتقل أفرج عنه في هذا المعتقل، بعد السيد ابن كيران. ثم توالى إطلاق سراح الباقين[29]. وفي وصف كيفية تلقيه نبأ الإفراج عنه يقول: « أصبحت يوم الثلاثاء 27 شوال (1373) وقد راجعت فراشي على خلاف عادتي من هجر نوم الصباح. فقد كنت أقرأ من أحزابي إلى أن غلبت عليّ عيني عند الشروق، ثم لما قام رفقائي للفطور حاولوا مني أن أقوم، فأحسست بثقل في همتي أكثر مما أحس في جسدي، فلم أقم فظنوني قد ألم بي سقم أو غلب عليّ النوم، فصاروا يفطرون، وأنا أقرأ سورة النمل سرا، وكان ذلك عند السابعة، فإذا بأحمد بن قاسم الفـﮔـيـﮔ جاء يجري، فدخل البيت بسرعة وهو يناديني:قم يا سيدي البشرى، فإنك مسرح، فتثاقلت في قيامي كأن الأمر لا يهمني، أو كأني مريض حقيقة، والواقع أنني أحسست بصدمة في قلبي صدمة المباغتة غير المنتظرة[…] وجاء العريف المحمدي، فقال: إن المراقب أرسل لتجمع متاعك الآن »[30]. وصل محمد المختار السوسي إلى الدار البيضاء في صباح اليوم الموالي، بيد أنه وضع تحت المراقبة في مركز الشرطة « لمدة عشرة أيام قبل إطلاق سراحه بصفة نهائية، ذلك أنه في الوقت الذي فيه بهذه المدينة اغتيل الدكتور ” إيروا ” مدير جريدة ” لافيجي ماروكان ” من قبل الفدائيين الشيء الذي كان له الأثر السيء على السلطات الفرنسية، خاصة وأن هذا الشخص كان من كبار رجال الاستعمار في المغرب »[31]
عاد المختار السوسي إلى بيته في الدار البيضاء في الوقت الذي بدأت فيه بوادر انفراج الأزمة المغربية تلوح في الأفق « حيث أطلقت السلطات الفرنسية معظم المعتقلين السياسيين، ودخلت في مفاوضات تمهيدية مع زعماء مختلف الاتجاهات السياسية انتهت بعقد مؤتمر(إيكس ـ ليبان) في صيف 1375هـ ( 1955) وبعده ببضعة شهور عاد الملك محمد الخامس إلى أرض الوطن، ففتحت المفاوضات بين الحكومتين المغربية والفرنسية، انتهت بتوقيع معاهدة الاستقلال في 2 مارس 1956 »[32].
لم يقم المختار السوسي خلال المدة المتراوحة ما بين إطلاق سراحه وعودة محمد الخامس، بنشاط هام سواء من الناحية السياسية أو التربوية، « نظرا للظروف التي كانت سائدة في جميع أنحاء الوطن، وخاصة بالنسبة إليه ولأمثاله من القادة السياسيين الذين سلطت عليهم الحراسة الظاهرة والسرية، والذين يستدعون للاستنطاق كلما حدث حادث، إذ كانوا في حكم المعتقلين […] ويمكن الإشارة إلى أن تأسيس ” جمعية علماء سوس ” بصفة واقعية كان في هذه الفترة [فهو] كانت تراوده هذه الفكرة منذ كان بمراكش […]. وبعد عودته من المعتقل نسق العمل مع أعضاء تلك الجمعية، وحددت أهدافها، والبرنامج الاجتماعي والثقافي الذي يتحتم عليها إنجازه، وما أن عاد محمد الخامس من المنفى حتى قدم إليه[…] أعضاء الجمعية وذلك في شهر دجنبر 1955. وبذلك انطلقت في تنفيذ مشاريعها التي هيأتها من قبل »[33].
عند تأسيس الحكومة الوطنية المغربية الأولى في 02 جمادى الأولى 1375هـ (17 دجنبر 1955م) أسند فيها منصب وزير الأوقاف إلى محمد المختار السوسي، فكان ذلك داعيا إلى رحيله إلى الرباط ليفتح بذلك الصفحة الأخيرة من رحلاته وتنقلاته، وأيضا الصفحة الأخيرة من حياته. إذ شاءت الأقدار أن يتعرض إلى حادثة سير خطيرة يوم الأحد 17 جمادى الثانية 1383هـ ( 03 نونبر 1963م). في طريق الدار البيضاء ـ الرباط « عندما كان عائدا إلى الرباط قادما من مراكش حيث حضر مراسيم استقبال جلالة الملك [الحسن الثاني] لدى عودته من مؤتمر قمة إفريقي رباعي عقد بـ ” باماكو ” عاصمة [جمهورية] ” مالي ” لدراسة مشكلة الحرب القائمة بين المغرب والجزائر حول الحدود »[34].
ولم يتم شفاؤه مما أصيب به في هذه الحادثة فاستسلمت روحه إلى ربها زوال يوم الأحد 30 جمادى الثانية 1383 (17 نونبر 1963)، ودفن بمقبرة الشهداء بالرباط جوار قبر الشهيد ” علال بن عبد الله “.
هذه إطلالة سريعة على حياة محمد المختار السوسي في ” الدار البيضاء “. حاولنا من خلالها تقديم ما تيسر من جرد لنشاطه في هذه المدينة التي كانت رائدة في مقاومة الوجود الاستعماري الفرنسي، وخاصة خلال المرحلة المعروفة في تاريخ المغرب المعاصر بـ “مرحلة الأزمة المغربية ” ( 1951/1955). وقد شاءت الأقدار أن يقضي صاحبنا هذه المرحلة كاملة في هذه المدينة، فكان له شرف المساهمة في هذه الحركة المباركة، سياسيا وتوجيهيا. وهي التي أدت إلى تحرير البلاد ـ جزئيا ـ من الوجود الاستعماري الأجنبي.
رحمه الله ، وجزاه هو وأمثاله عن هذا الوطن خير الجزاء.
[1] ـ بحث شارك به الكاتب في ندوة” محمد المختار السوسي الأديب المفكر، التي نظمتها كلية الآداب العلوم الإنسانية . عين الشق في أكتوبر 2004م
[2] ) شأنه في ذلك شأن بقية إخوانه وأخواته الأشقاء وغير الأشقاء، الذين كانوا يحفظون حزبين من القرآن الكريم ويتعلمون مبادئ القراءة والكتابة على الأقل على يديها، قبل انتقالهم إلى كتاب القرية.
[3] ) توجد قريبا من بسيط ( إلغ) حيث توجد قرية ( دوكادير) مسقط رأسه.
[4] ) قضى في كتاب قرية العركوب سبعة أشهر، ثم التحق بكتاب قرية ( إيفرمان) بـ (أيت باكو) بشتوكة، الذي قضى به حوالي سنة وشهرين، أي إلىشهر رمضان 1328هـ ( شتنبر 1910م).
[5] ) وهي: 1 ـ مدرسة (إيغشان) التي قضى بها حوالي سنتين. 2 ـ مدرسة ( بونعمان )، وقضى بها نحو سنة واحدة. 3 ـ مدرسة ( تانكرت ) بإفران الأطلس الصغير، وفيها قضى حوالي أربع سنوات.
[6] ) وفي ذلك يقول: « في فاس استبدلت فكرا بفكر، فتكون لي مبدأ عصري على آخر طراز، قد ارتكز على الدين والعلم والسنة القويمة، فشجت بقصائد حية ، وهناك تعرفت على تطوانيين فاضلين هما: السيد لحاج عبد السلام بنونة وأخوه الحاج محمد، ورباطيين فاضلين هما: الشيخ الأستاذ المكي الناصري، والأستاذ الحاج أحمد بالافريج، وكانا يردان عليّ في بيتي، وقد يبيتان معي فيه. كما عرفت هناك الأديب أبا بكر بناني، بل هو أول من عرفت في الرباط، وقد ورد إليها يوما، والأديب محمد بن العباس القباج، والحاج محمد الناصري الشاعر، وكانت الأفكار تتبادل، فكانت هذه المدن الثلاث: فاس، والرباط، وتطوان. مركز التفكير في فجر المغرب الجديد. ومن هناك تمخضت الفكرة الوطنية المرتكزة على الدين والأخلاق السامية، وكنت أصاحب المفكرين إذ ذاك، وكانوا نخبة في العفة والعلم والدين، ينظرون إلى بعيد » (الإلغيات:2/226).
[7] ) انظر كتابه: ( الإلغيات: 2/227 ).
[8] ) محمد المختار السوسي.( الإلغيات ): 2/224 ـ 224.
[9] ) من قواد الإدارة الفرنسية الذين استطاع المختار السوسي إقناعهم بذلك: القائد ” العيادي ” قائد الرحامنة. الذي أنشأ مدرسة ” بن كرير ” وعين على رأسها الأستاذ إبراهيم بن أحمد الإلغي، وهو أحد تلاميذ المختار السوسي النجباء.
[10] ) قدر للمختار السوسي أن يعتقل في الدار البيضاء يوم 14/12/1952م في بيت هذا الرجل وبصحبته.
[11] ) مقدمة كتاب:و” إيليغ قديما وحديثا ” لمحمد المختار السوسي ( بقلم محمد بن عبد الله الروداني).
[12] ) محمد المختارالسوسي: ” الرسالتان الشوقية والبونعمانية ” ص: 182.
[13] ) نفسه: ص: 196.
[14] ) محمد خليل: ” محمد المختار السوسي، دراسة لشخصيته وشعره ” ص: 98.
[15] ) محمد المختار السوسي: ” معتقل الصحراء ” : 1/12.
[16] ) نفسه: ص: 99.
[17] ) نفسه: 1/14.
[18] ) حكى لي هذه الواقعة مولاي أحمد المنجرة رحمه الله ، وذلك خلال زيارتي له في بيته الواقع بحي المواسين في شهر مارس 1974م.
[19] ) هو المعروف في أوساط الحركة بـ: ” حميدو الفارس الوطني ” ( نقلا عن تلميذ السوسي وخليفته في تسيير مدرسته بعد نفيه إلى مسقط رأسه سنة 1937م: السيد على بلمعلم رحمه الله). ( أما حميدو فقد اغتيل رحمه الله بالدار البيضاء سنة 1970م ).
[20] ) معتقل الصحراء. ص: 15 ـ، 16.
[21] ) نفسه: ص. 16.
[22] ) حكى لي هذا تلميذه الأستاذ حسن أمين، وكان أحدهم.
[23] ) نفسه: ص. 16.
[24] ) نفسه: ص. 17.
[25] ) نفسـه: ص21 ـ 22.
[26] ) إذا كانت مرحلة نفيه إلى سوس تعد محنة في نظره ، فهي كانت نعمة بالنسبة إلى سوس، لأنه لولا ذلك النفي لما تفرغ إلى كتابة العشرات من المؤلفات عن هذا الإقليم.
[27] ) معتقل الصحراء:1/24 ـ26.
[28] ) محمد خليل: ” محمد المختار السوسي، دراسة لشخصيته وشعره ” ص: 106.
[29] ) تجدر الإشارة إلى أن من بين المعتقلين الذين كانوا معه: المهدي بن بركة، محمد الفاسي، إدريس المحمدي، المكي بادو. عمر بن شمسي…
[30] ) معتقل الصحراء. ص: 1/216.
[31] ) محمد المختار السوسي، دراسة لشخصيته وشعره.ص: 109
[32] ) محمد المختار السوسي، دراسة لشخصيته وشعره. ص: 108 ـ 109.
[33] ) نفسه.ص: 110.
[34] ) نفسه. ص: 113.