محمد المختار السوسي ناقدا·
الأستاذ الدكتور محمد خليل
لا يسعني في البداية إلا أن أشكر اللجنة المنظمة لهذا الملتقى الدولي الثالث للأدب الإسلامي ـ والمخصص لموضوع : النقد التطبيقي بين النص والمنهج ـ على اختيارها الموفق بإطلاقها اسم الأديب الناقد : ” محمد المختار السوسي ” على هذه الدورة . ذلك أن هذا الرجل عرف في الساحة الثقافية والأدبية المغربية ، بكونه شاعرا وكاتبا وباحثا ومؤرخا ومفكرا سلفيا ، ولكنه لا يذكر إطلاقا عند الحديث عن الحركة النقدية في مغرب النصف الأول من القرن الميلادي العشرين ، على الرغم من كونه سجل حضوره في هذا المجال ، وخلال هذه المرحلة ، بقدر جدير بالدراسة ، وهذا ما سنحاول إبرازه في هذا العرض الموجز .
من المعلوم أن محمدا المختار السوسي قضى العشرين سنة الأولى من عمره ، متنقلا بين عدد من المدارس العلمية السوسية طلبا للعلم ، وذلك قبل أن يقرر الرحيل إلى خارج هذا الإقليم لاستكمال تكوينه العلمي والمعرفي[1] . ومن المعلوم كذلك أن صاحبنا أخذ بناصية قرض الشعر في هذه المرحلة الأولى من حياته الدراسية [2]، فصدرت عنه قصائد ومقطوعات تعبر في الغالب عن حياته في مرحلة المراهقة [3].
فهل أخذ المختار في مرحلة التعلم بسوس بقدر من ” الثقافة النقدية ” أيضا؟ .
أستطيع الإجابة بالإيجاب وبدون تردد . ذلك أن العادة التي كانت متبعة في المدارس العلمية السوسية ، جارية على إقامة « مجالس أسبوعية تخصص لقراءة نصوص أدبية ـ شعرية ونثرية ـ وتناولها بالدراسة والتحليل ، وغالبا ما تكون هذه المجالس ، مناسبة لإلقاء نماذج أدبية من إنتاج أساتذة أو طلبة تلك المدارس أنفسهم . فبعد الاستماع إلى النص الأدبي ، يفسح المجال لتدخلات الحاضرين الذين يتناولون ما عرض عليهم بالنقد والتحليل […] . من هذه البيئة الأدبية والنقدية ، قطف المختار الزهرات الأولى لتكوين باقة ثقافته النقدية »[4] التي طعمها بما تلقاه في مرحلة الدراسة خارج سوس ، وبفاس على الخصوص ، إذ أتيح له الاطلاع « بشكل واسع على النهضة الأدبية في الشرق العربي ، بما يروج فيها من مذاهب نقدية جديدة تزعمها في ذلك الوقت طه حسين والعقاد والمازني وغيرهم »[5].
وعندما استقر بمراكش[6]،وأنشأ بها مدرسته المشهورة[7] ، حرص على أن يكون للدرس النقدي فيها نصيب وافر ، من خلال « سوق أدبية تعقد عشية كل يوم الأربعاء ، تلقى فيها عدة قصائد فخرية وحماسية يتبارى فيها التلاميذ »[8]. الأمر الذي انعكس إيجابا علي خريجي ومريدي هذه المدرسة[9] ، فكان من بينهم العديد من الشعراء ، والكتاب ، والنقاد . أمثال : محمد الوديع الآسفي[10]، وأحمد الجوماري[11]، ومحمد بن عبد الله الروداني[12]، وشقيقه إبراهيم الإلغي[13]. وغيرهم كثير .
***
فهل كان السوسي ناقدا منظرا ، أم ناقدا مطبقا ؟ .
أستطيع القول بأنه مارس المهمتين معا . ولذلك سنطل على شخصية السوسي النقدية من هاتين الزاويتين .
1 ـ الناقد المنظر:
يرى السوسي أن للديب/الشاعر رسالة في الحياة، هو مطوق بأدائها، وعليه أن يتفانى في ذلك، وأن يخلص في أداء هذه الأمانة ما وسعته موهبته. ولكي يحقق الأديب/الشاعر هذا الهدف لا بد أن تتوافر في العلملية الإبداعية مجموعة من المواصفات التي بدونها لا يمكن للإبداع أن يرقى إلى المرتبة التي تؤهله لتحقيق الرسالة المنتظرو منه. وقد عبر عن ذلك في قوله:
ومن لم يجاهر بالحقائق شعره فلا كان شعر لا يفيض حقائقا |
|
فهل كان حقا أيها الناس يشعر؟ ينادى بها كل صقع ويجهر[14] |
ويقول:
ما الـشـعر مـوزونا بقافية لـه لكنما الشعر الذي إن جال في الـ ويرن أثـناء الـضمـير بـرنـة فيثـير مكـنون الضمير كـأنـه هذا هو الـشعر الـذي أخـتـاره |
|
معـنى بأسـماع الجليس سديد أسماع يـذهب بالـفتى ويعود نفحـاتها يحـيا بها المـوءود وحي من اكـناف السماء جديد وأوده وأحــبـه وأريـــد[15] |
تعمدنا أن نسوق هذين النموذجين من شعره اللذين يعبر فيهما عن مفهومه للشعر الذي ترتاح إليه نفسه، وليس معنى ذلك أن السوسي عبر عن مفهومه للشعر تعبيرا عاطفيا يشبه ـ مثلا ـ ما عبر به غيره من الشعراء أمثال أحمد شوقي في قوله:
والشعر ما لم يكن ذكرى وعاطفة وحكمة فهو تقطيع وأوزان[16]
ولكن صاحبنا ذهب إلى أبعد من ذلك، فنشر مقالات، حلل فيها نظريته في النقد الأدبي، وحدد فيها القواعد التي يحب على الناقد أن يتعلمها، والمقاييس التي يرى ضرورة مراعاتها عند التصدي للعملية النقدية. وقد نشرت هذه المقالات تحت عنوان: ” في النقد والأدب “[17]. وسنقف عليها فيما يلي، لأنها كافية في تعريفنا بالنظرية النقدية عنده. ذلك أن الكاتب أوضح من خلالها بما فيه الكفاية، القواعد والمقايسس التي تنبني عليها نظريته هذه. فأما القواعد الكبرى التي اعتمدها لنظريته يعتبرها السوسي قيودا وشروطا لا يصح أن يخلو منها أي ناقد، أي ـ بمعنى آخر ـ إنها من صميم عناصر ثقافة الناقد، فهي:
1 ـ يجب أن يصدر النقد » عن علم ويورد عن احترام، لا يجرح عاطفة، ولا يمس كرامة، يقوم به المتشبعون بالفهم الممتاز، وحسن الاختبار، وروح الابتكار، ودقة الملاحظة. والذين يكرعون أزمنة طويلة من بحور الأدب المتنوعة، ومن مختلفات الفنون التي لا يستكمل الفن إلا من تضلع منها، حتى يرهف الذوق السليم بطول المران، وعمق النظر، وتعود التأني عند الفهم، فلا يرتجلون الفهم،ولا يألفون الاعتساف برجل حنفاء، ولا اختزال النظر بعين حولاء، فينظر أحدهم فيما أمامه نظر الصيرفي الحاذق الماهر الذي لا تخدعه الألوان، ولا يستهويه طنين المنقود، ولا جدة الحديث، ولا عتاقة القديم« .
2 ـ يجب أن يتحلى الناقد بأكبر قدر من الكوضوعية، ومن التجرد من الذاتية. » لا يؤدي الاتنقاد المطلوب غاية الأداء، إلا من تحلى بالإنصاف من نفسه ولغيره،وتحرى الحق كما يراه، من غير أن ننتظر منه عصمة لازمة […]، عاى أن الانتقاد ينبغي أن لا يفهم منه أنه مقصور على ذكر السقطات، والتنبيه على العورات، بل يجب أن يعلم أن من أبرز ماهياته: الإشادة بالمحاسن، وإبرازها في أجلى مظاهرها « .
3 ـ يجب الحفاظ على الطابع العربي لأدبنا، ولكن منغير تعصب أو تحجر » فالمعنى والخيال اللذان عليهما يدور محور الأدب عالميان، كما أن العلم وآلة العمل عالميان، فكما أن هذين لا شرقيان ولا غربيان، كذلك المعنى والخيال لا شرقيان ولا غربيان، وكما أ، الشعراء السكسونيين والجرمانيين والغليين والروسيين والصينيين، إن فكروا في معنى أو خيال كما يفكر فيهما العربي المبين فيؤدون لقومهم بلسانهم ، وبطابع لغتهم، وأسلوب أدبهم ما فكروا فيه، فإنهم في بيئتهم من المقبولين، فكذلك العربي المبين، إذا اقتبس معنى من غيرنا، أو تخيل تخيلا أجنبيا عن بيئتنا، ثم أداه إلينا بطابعنا، وبأسلوب أدبنا، فإنه عندنا من المقبولين أيضا « .
وأما المقاييس التي بنى عليها نظريته، والتي يعني بها الأسس التي يتعين على الناقد نراعاتها عند تقييمه للعمل الأدبي، فهي عنده على ثلاثة أقسام:
القسم الأول: » ما محموره القواعد المسطرة في الفنون، مما لا يمكن أن يختلف فيه اثنان يعرفان تلك العلوم، فمن قيل له: استعملت “الرؤيا” في موضع ” الرؤية “، أو جزمت بإذا ولا يجزم بها في الكلام الفصيح، أو استعملت في مصدر ” ماع” و ” نضج”: الميوعة والنضوج […]، أو قلت له: هذا البيت غير موزون، أو خالفت قواعد البيان. من انتقده منتقد في مثل هذا فليس عليه إلا أن يقبل الحق […]. ومن هنا يعلم أن من شروط المنتصب للانتقاد: التوسع التام، حتى ليكون أوسع دائرة من المنقودين « .
القسم الثاني: » ما يرجع للذوق السليم فقط ، حتى لو اجتمعت جماعة من أرباب الفن لأجمعوا على شيء من ذلك، ثم لا مستند لهم إلا الذوق فقط ، وما حداهم إلى ذلك ووجههم تلك الوجهة المتوحدة إلا الدراسة الواسعة التي اشتركوا فيها، حتى تكيف ذوقهم السليم […]. ومن هذا القسم: التعابير التي تختلف باختلاف البيئات التي تستسيغه الأذواق […]. ومن هذا القسم أيضا: التفرقة بين الكلمات الحوشية وغير الحوشية، فليس كل ما يجهله بعض الناس حوشيا،ولا كل ما يعرفه كثير من الناس مألونوسا، فهيهات أن يعرف ذلك إلا بالممارسة وكثرة المطالعة«.
القسم الثالث: » هو المتشابه الذي تختلف فيه الأذواق، ولا يكاد المستولون على ناصية الفن يجمعون على شيء، فيلحتفظ فيه كل واحد بذوقه الخاص[…]. وأمثلة هذا القسم كثيرة، ولا تكاد تخلو أبيات قليلة، فضلا عن قصيدة من أمثلته، والمنتقد الذي يريد أن يلزم ذوقه الخاص الناس أجمعين في مثب هذا القسم مشتط فيما يريد «.
نستفيد من هذا أن السوسي اعتبر مهمة الناقد على قدر كبير من الأهمية، ومن الخطورة، وينبه من يريد الاضطلاع بها ضرورة التزود نمجموعة من الضوابط التي يستطيع بها القيام بمهمته على الوجه المطلوب، وكل تهاون أو إخلال بهذه الضوابط سيؤدي لا محالة إلى وقوع الناقد/المتتقد في مزالق لا تحمد عقباها، فيقول: » الانتقاد سهل حتى على الشادين في الأدب، ولكن من الصعب الإيراد والإصدار عن علم وعن برهان ساطع، ليكتسي الانتقاد حلة علمية مقبولة، فإن زلة المنتقد يضرب بها الطبل ـ كما يقولون في زلو العالم ـ ، والأفضل لمن هيأت له الظروف أن يكون منتقدا أن يكثر التوقف، فلا يقدم حتى يستبين الحق كالشمس في رابعة النهار، وليجتهد أن يدرأ الحدود بالشبهات كما يقول إخواننا الفقهاء « [18].
هذا هو المختار السوسي الناقد المنظر، نقلنا آراءه حرفيا حتى لا تتعرض إلى التحريف أو التشويه إذا قدمناها مختصرة، وهو في نظريته النقدية كان حريصا على الدعوة إلى جعل مهمة الناقد في السعي إلى تحفيز الأدباء ـ وخاصة الناشئين منهم ـ علة تسلق سلم الإبداع بخطى وئيدة، تطبع بالثقة في الدات، والتفاؤل بمستقبل باسم. فيقول: » هناك ظاهرة من شعرائنا تحملنا على أن نقول: إن التشجيع هو أفضل شاحذ، ولأكبر حافز، فقد لمسنا مرارا من بعض الناشئة ركودا حين يحسون بميزان القسط يوضع، ثم لا نكاد نستنهضهم ليستوحوا أقلامهم ثانيا إلا بعد التي واللتيا، فيظهر الأولى للمنتصبين للانتقاد أن لا ينتقدوا إلا بمقدار، وريثما تزداد جذور نهضتنا المباركة رسوخا « [19] .
ومما يثير الانتباه : أن السوسي كان يستعمل في هذه المقالات مصطلح ” النتقاد ” بدل مصطلح ” النقد ” المتداول بكثرة في هذا المجال، والمصطلحان هما بمعنى لغوي واحد، وفي ذلك يقول صاحب ” لسان العرب “: » نقدت الدراهم وانتقتها: إذا أخرجت منها الزيف « .
***
2 ـ الناقـد التطبيقي:
يمكن القول بأن السوسي بدأ ممارسة النقد التطبيقي، أي القيام بعملية التقويم/ أو تقييم الأعمال الإبداعية، منذ أن كان طالبا بجامعة القرويين بفاس. ففي هذه المرحلة من حياته ـ وكان ذلك سنة 1344هـ/1925م ـ دعا إلى تأسيس جمعية ثقافية أطلق عليها اسم: ” جمعية الحماسة “. كان فيها مع ثلة من رفاقه في الدراسة وفي ممارسة الأنشطة الوطنية، يجتمعون لمدارسة كتاب ” الحماسة ” لأبي تمام. وفي هذه المرحلة قال قصيدة مشهورة لا تخلو من نكهة نقدية، ومما ورد فيها قوله:
لم لا أقـول الشعـر كـيف أريد؟ لـم لا أقـول وإنـني متـملمـل فكري يجيش ومرقمي في أصبعي أيـهـز “عـلال” و”قـري” ومكـ وتقـودهـم يـائـية العـيد التي أيكون حـظي بينـهم حصرا ولي وتـنهـدات تستـثيـر لـهيبـها حتى أنـا يذكـو الأسى بجوانحي |
|
وأنا بنيران الشعـور وقـود فـي حين أن القائلين رقـود لم لا يخط الشعر كيف يريد؟ ـي” بشعرهم السما فتميد؟[20] عرفت بذاك السحر كيف تقود؟[21] قـلب بأشجان الشعر عمـيد ديني الغريب وشعبي المنكود؟ لم لا أقـول كـقولهم وأجيد؟[22]
|
يجب أن لا نقرأ هذه الأبيات قراءة سطحية، بل يتعين التمعن فيها، لأن الشاعر كان ـ فيما يبدو ـ يريد أن يقول بأنه لم يكن راضيا عما كان يصدر عنه من شعر، إذ لم يكن حينئذ قادرا على التخلص بعد من رواسب ثقافته السوسية التي كانت شديدة التأثر بالثقافة التقليدية السائدة ـ آنذاك ـ في الأوساط الأدبية هناك.وأنه شرع في الأخذ بناصية القصيدة العربية الحديثة على غرار ما كان يقوله ثلة من رفاقه في الدراسة، والذين ذكر أسماء عدد منهم في هذه الأبيات.
ولما حل الشاعر بمراكش سنة 1348هـ/1930م. وقيامه بتأسيس ” مدرسة الرميلة ” ، وإنشائه ناديا/سوقا أدبية أسبوعية، كانت تعقد في رحاب هذه المدرسة عشية كل أربعاء، أسماها : ” سوق عكاظ ” صار تعاطيه للنقد التطبيقي مكتسيا صبغة الناقد/ المعلم /الموجه، الذي يريد أن يسلك بطلبته مسلكا تعليميا خاصا، كان التكوين الأدبي من أكبر مقوماته. وقد كانت السبوات السبع التي قضاها في هذه المدرسة، حافلة بالعطاء الأدبي الرفيع الذي شهد له به العديد من الأدباء المغاربة الذين كانوا يتوافجون عليها،. أمثال: علال الفاسي، وعبد الله الجراري، وغيرهم كثير. ولماصدر في حقه قرار سلطات الحماية القاضي بنفيه عن مراكش، كانت جهوده قد أعطت ثمارها المرجوة, وذلك من خلال العشرات من الأدباء الشباب الذين تخرجوا منهذه المدرسة، التي انتشرت شهرتها عبر مختلف أنحاء المغرب. وقد اضطر الكثير منهم إلى مغادرة مراكش بعد نفي أستاذهم، متوجهين إلى مدن مغربية أخرى، فكانت مناسبة ليقوم هؤلاء بزرع ما تلقوه في مدرسة ” الرميلة ” في المدن التي رحلوا إليها، أمثال شقيقه إبراهيم الإلغي، الذي رحل إلى تطوان، فكانت له هناك شهرة علمية وأدبية، لا زال أبناء تطوان يذكرونها إلى الآن، والشاعر محمد بن عبد اببه الروداني، الذي رحل إلى الدار البيضاء.
ولم يكن نقده خلال هذه المرحلة مقتصرا على ما كان يتداوله مع طلبته، بل انخرط في كثير من الأجواء التي تتيح له ممارسة هذه المهمة، سواء على صعيد مدينة مراكش، أو على الصعيد الوطني، خاصة وأنه كان مواظبا هلى القيام برحلات منتظمة إلى مختلف المدن المغربية، الكبيرة منها والصغيرة، فكان في هذه الرحلات يتصل بأدبائها، ويحضر مجالسهم وأنديتهم الأدبية، ويدلي بدلوه فيما كان يروج فيها. وأكثر من هذا، كان السوسي معروفا في أوساط الأدباء والمثقفين بكثرة إثارته للقضايا النقدية والفكرية في المجالس التي يحضرها، وذلك بقصد الإفادة من تلك المجالس.
وف منفاه بمسقط رأسه ” إلـغ ” دأب على ممارسة نشاطه في مجال النقد الأدبي، وقد سلك في ذلك عدة مسالك، من أشهرها:
1 ـ المراسلات التي كان يتبادلها مع أصدقائه من الأدباء ومن غيرهم، الذين كانوا موجودين في مختلف المدن المغربية. وأيضا في مختلف المدارس العلمية السوسية. وكان الطابع الغالب عليها هو: الطابع الأدبي والنقدي بالنسبة للأدباء منهم، وهذه العادة كانت ملازمة له طوال حياته. وفي مؤلفاته التي وضعها في هذه المرحلة الكثير من هذه الكتابات التي كان يملأ بها الفراغ الذي كان يشكو منه في منفاه.
2 ـ المجالس الأدبية التي كانت تعقد في بيته بعد رفع حالة ” الحصار ” عنه، التي قضى فيها السنوات الخمس الأولى من المنفى، إذ سمح له باستقبال من يشاء من علماء سوس وأدبائها، وأيضا بالتنقل عبر قبائلها، وفي هذه المرحلة عقد مجالس أدبية كانت حافلة بالمناقشات النقدية وبالمساجلات الأدبية، وفي كتابه ” خلال جزولة ” إشارات إلى نماذج مما كان يجري في هذه المجالس التي كان يحضرها خلال تجواله بسوس.
ونقف هنا على نموذج مما راج في مجلس أدبي عقد في ” إلـغ”. نرويه عن المختار السوسي الذي تحدث عنه قائل: » بشرت بوفود الشيخ الطاهر الأيفراني، فكنا في كل تلك الأسابيع في انتظار […] وفي الظهيرة قدم […] فتلقيناه يلقيا يتضمن كل الاحترام كما يقتضيه مقامه […] فتدوولت مذاكرات علمية، فنفتح بذلك أسبوع علمي إلغي، يذكر به ” إلغ ” ما قد مضى فيه ولا يتكلم إلا من له علم، ومن سواهم مطرقون، والصدارة لأرباب الأقلام، والناس سواهم وراء، وهم أمام، وبعد الغداء طلعنا جميعا إلى دار الأستاذ المدني[…]. فهناك فتحت صفحة أدبية تؤخذ فيها الآراء عند الاختلاف على عادة أدباء ” إلغ “[…]. فجاء قول الوزير المهلبي يوم ضيقه قبل الوزارة من قطعة:
ألا مـوت يبـاع فأشتريـه فهذا العيـش ما لا خير فيـه
وما كتبه بعد الوزارة رفيق له بعد أيام الضيق:
ألا قل للوزيـر فدتـه نفسـي أتـذكر إذ تقول لضنك عيش؟ |
|
مقالة مـذكـر ما قد نسـيه ألا مـوت يبـاع فـاشتريه |
فقرأ الأستاذ الإيفراني القافية من البيتين هكذا: ما قد نسيَهْ، فأشتريَهْ، بفتح الياءين وإسكان الهاءين فيهما، فعارضه الأستاذ الإلغي قائلا: إن الحكاية عن الأ[يات المتقدمة بسكون الياءين ، وأيضا فإن الوزن يسقط، لأن الياءين حينئذ تشددان ولا بد[…]. فعارضه الاخر بأن الوزن مستقيم من غير تشديد، وكنت أنا في جانب الأستاذ الإلغي، ولكن منبعيد من غير أن أدخل في المناقشة. ثم جاء البحث في تحريك الياء في المعتل بها، فقال شيخنا الإلغي: قال الشاعر:
فعوضني منها غناي فلـم تـكـن تسـاوي غيـر خمـس دراهـم
ففهم الأستاذ أنه لمزه، فقال بملاطفة، وللضرورة أحكام: قال الشاعر:
وتـضحك مني شيخـة عبشمية كأن لم ترى قبلي أسيرا يمانيا
وهكذا تراشقا بلطف من غير أن ينتبه لهما غيري، وغير تعجب من الأستاذ الإلغي، وقد قلت له:إن الآخر أجابه ـ ولم يكن تنبه للجواب ـ . وهذا الآخر هوهو سيدي الطاهر بن علي اللبق[…]. ثم عند الغروب نزل الأستاذ مع أولئك الأساتذة، فتعشينا جميعا في ثوى الأخ، فأتى الأخ بقصيدة من ” السعادة ” مما نشر حول إعذار أبناء السلطان، فطلب منا أن نتلوها، وهو يحسب أنه نفح إلينا ما نبتهج به، ولم يدر أن شعراء ” السعادة ” ليس بيننا وبينهم إلا طلب السلامة، فكلفت أن أتلوها، فذهبت أسبح في ذلك الماء البارد الخصر المثلج، تحت جو قارس يتناثر بردا وجليدا، فكان الأستاذ المدني وغيره يضحكون مليا من تلك المعاني السمجة، ومن الركاكة في الألفاظ، فمضيت قدما حتى غلبت على نفسي، والقصيدة تنيف على المائة، فألقيتها عني، فقال الأستاذ: لم يعجبكم شعر هذا السيد، مع أنه كذا وكذا، يريد أن يستر منه سوءة مكشوفة ، فقلت له : يا سيدي:
الشعر لا يحسـن إنشـاده إلا إذا أحسـن مـن شـاده
ثم قلت له في ذلك ما أداني حتى أنشدت له قول الزهاوي:
والشعر ما لـم يكن ذكرى وعاطفة وحكمة فهو تقطيع وأوزان
وأنشد هو البيت المشهور:
وإن أحسن شعر أنت قائله شعر يقال إذ أنشدته صدقا
هكذا أمضينا هذه العشية[…]. وفي الصباح مثلت بين يدي أستاذي بهذه القصيدة:
اليوم نظفـر بالمنى جمعـاء لمـا رأينا وجهك الـوضـاء
وفيها نيف وستون بيتا، وهي كما ترى أيه الشاعر [يقصد الحسن البونعماني] متوسطة في نسجها، وأن كانت في باب الإخوانيات الإلغيات حسنة. وقد حاولت أن أقولها على نحو ما يقتضيه الذوق الإلغي، كثيرا ما تأتيني فيها ما يعجبكم بني العصر الحديث، فأستبدله نزولا عند هذه البيئة مرغما، فإن لم تكن عندك أنت وابن العباس القباج إلا مثل الشراك، فإنها تاج مرصع عند الآخرين، والحمد لله الذي غاير بين الأذواق، حتى يجد مثلي ممن يسفون غالبا مخرجا حسنا، أو ليس الأمر كذلك؟ فمتاذ تنتقد أنت أيضا بدورك منها من جديد؟ فإن كان ما تنتقده، فانتقد الأسلوب / والخلو من المعاني المبتكرة، ومن الوثبات الخيالية، وأما من جهة التركيب العربي اللغوي فقد مرت المسكينة تحت ثقاف لا يرحم، وقد بالغ الأستاذ الإيفراني في انتقادها
، حتى اضطررت أن أصلح فيها كلمات، منها: الأطباء، فإنني كنت قلت: الأثداء، فقال: إن الثدي لا يجمع بالأثداء، فروجع في القاموس فلم نره فيه. ومنها: متباشرون جميعهم، فقد كنت قلت: متباشرين جميعهم، فقال إن جميع لا يكون حالا مع الإضافة، ثم أصلح بما تقدم ليكونا مبتدأ مؤخرا وخبرا سابقا «[23]
وقد كان المختار يؤاخذ على السوسيين منهجهم في النقد الذي كانوا يقتصرون فيه على انتقاد المعاني، دون الاهتمام بالجوانب الأخرى في القصيدة الشعرية، وقد تحدث عن عادتهم في نقدها ، فقال إن العادة عند السوسيين كانت »إنشاد كل قصيدة بيتا بيتا، مع تكرير كل بيت مرتين، فإن كان فيه ما يقال وقفوا عليه حتى ينتهوا منه، وإلا ذهبوا قدما، ولم يكن الصغير ليستحيي من انتقاد الكبير، ولا الكبير لتعظم عن الرجوع للصغير إن كان الحق معه، وهكذا القوم خصوصا في المجالس الأدبية، وفي الشعر على الخصوص، وما هذا إلا عناية كبرى بالشعر، فلو كانوا يتقدون المعاني، ويأخذون أنفسهم بالابتكار، وبسمو الخيال كما يأخذونها بموافقة الوزن والإعراب واللغة، لتكشفت المدرسة الإلغية عن أدباء يكونون زينة إفريقية في القرن العشرين«[24]
هذه إطلالة سريعة عن هذا الجانب الخفي في شخصية المختار السوسي النقدية، والتي يحتاج التعرف عليها إلى تفحص عدد مهم من مؤلفاته، وخاصة المخطوطة منها،مثل: ” مترعات الكؤوس ” و ” نضائد اديباج ” وهذه مهمة ننتظر أن ينهيها باحث سجل أطروحة جامعية في موضوع: ” النقد الأدبي عند المختار السوسي ” ، وقد قطع في عمله أشواطا مشجعة، لكنه تقاعس في الشهور الأخيرة، ونأمل أن يتمكن من إنهاء عمله في أقرب وقت، حتى يسهل على الباحثين والمهتمين الاطلاع على هذا الجانب المهم من هذه الشخصية التي لا يجود الزمان بمثلها إلا بين الفينة والأخرى.
- · ) مداخلة شارك بها الكاتب في أعمال ” الملتقى الدولي الثالث للأدب الإسلامي ” الذي انعقد في أكادير أيام 16 ـ 18 يناير 2001م من قبل مكتب المغرب الإقليمي لرابطة الأدب الإسلامي العالمية، وكلية الآداب والعوم الإنسانية بأكادير، ومجلة ” المشكاة “. ونشرت في الكتاب الذي يتضمن أعمال هذا الملتقى أعمال هذا الملتقى. ص: 454 ـ 463.
[1] ) قضى في مرحلة طلب العلم خارج إقليم سوس حوالي عشر سنوات ، منها : سنة في مدرسة السعيدات ( أحواز مراكش ) وخمس سنوات في جامعة ابن يوسف بمراكش ، وأربع سنوات في جامعة القرويين بفاس ، وسنة واحدة بمدينة الرباط .
[2] ) بدأ السوسي التمرن على قرض الشعر في سن الحادية عشرة ، لما قال أول مقطوعة شعرية مطلعها ( المعسول : 7 / 237 ) :
الله أكبر وهو الرحمن الرحيم وهو السميع الخلاق القادر العليم
[3] ) أوردنا في كتابنا الذي لم يطبع بعد ” المرشد إلى ديوان محمد المختار السوسي ” مطالع ما وقفنا عليه من شعره في هذه المرحلة .
[4] ) محمد خليل : ” محمد المختار السوسي ـ دراسة لشخصيته وشعره ” ص 250 ـ 251 .
[5] ) نفسه . ص 251 .
[6] ) كان ذلك في شهر محرم 1348 هـ / يونيو 1929م ( أوضحنا أسباب اختياره الاستقرار بمراكش في كتابنا : محمد المختار السوسي ، دراسة لشخصيته وشعره . ص 83 وما بعدها )
[7] ) أسس هذه المدرسة المعروفة باسم ” مدرسة الرميلة ” فور حلوله بهذه المدينة ، وكانت أول مدرسة حرة أنشئت بها ، ولقيت شهرة فائقة في ظرف وجيز ، فقصدها الطلاب من مختلف المناطق المجاورة لمراكش ، وخاصة من الأقاليم الجنوبية . وعمل بعد ذلك على تشجيع عدد كبير من علماء المدينة ليحذوا حذوه ، فتجاوز عدد هذه المدارس التي تأسست بإيعاز منه العشرة .
[8] ) محمد ابراهيم الدفالي ( مجلة الإيمان ) ع 113 ـ 114 . س 12 ص. 91 . ويضيف الكاتب قائلا « ولقد حضر هذه السوق كثير من أعلام الأدب في المغرب ، كالزعيم علال رحمه الله ، وسيدي محمد بن العربي العلوي ، وسيدي محمد بن اليمني الناصري ، الذي أهدى لهذه السوق نشيده المشهور في القرآن الكريم : ” روحنا القرآن روح ” . كما حضرها المؤرخ الكبير مولاي عبد الرحمن بن زيدان ، والأستاذ عبد الهادي الشرايبي وغيرهم من الأعلام »
[9] ) من بين مريدي هذه المدرسة الذين لم يكونوا تلاميذ دائمين بها ، نذكر : عبد الله إبراهيم الذي اشتهر بكتاباته النقدية في سنوات الأربعين والخمسين . والشاعر المرحوم عبد القادر حسن ، صاحب أول ديوان شعري صدر في المغرب ، ( أحلام الفجر ، 1936م) . والشاعر الحسن البونعماني ، الذي اشتهر ـ إلى جانب قرض الشعر ـ بكتاباته النقدية في سنوات الأربعين والخمسين .
[10] ) صدر له ديوانان شعريان : ” الجرح العنيد “، سنة 1979م . و ” نداء الأرض ” سنة 1983م .
[11] ) صدر له ديوانان شعريان : ” أشعار في الحب والموت ” سنة 1979م. و ” أوراق الليل ” سنة 1989م.
[12] ) لم يتمكن من إصدار شعره في ديوان قبل وفاته ، وقامت الباحثة سعيدة ادريسي تافراوتي ، بإنجاز رسالة جامعية تحت إشرافي ، جمعت فيها آثاره الأدبية ـ شعرا ونثرا ـ وكانت بعنوان : ” محمد بن عبد الله الروداني ، الأديب المحقق ” ، قدمتها بكلية الآداب عين الشق الدار البيضاء ، سنة 1996 م.
[13] ) لم يتمكن هو أيضا من إصدار ديوانه قبل وفاته ، وقام الباحث محمد علالي ، بإنجار رسالة جامعية تحت إشراف أستاذنا د. عباس الجراري ، وكانت بعنوان : ” الأستاذ إبراهيم الإلغي ، حياته وشعره ، قدمها بكلية الآداب بالرباط أكدال ، سنة 1997م. ولهذا الشاعر ، مقالات نقدية نشرها بدوره خلال سنوات الأربعين والخمسين ، وخاصة في المنابر الثقافية والصحفية التي كانت تصدر في شمال المملكة . كما أن له مؤلفا في الأدب العربي .
[14] ) جريدة ” العلم” المغربية س1 ع73 (5/12/1946م)
[15] ) محمد بن العباس القباج: ” الأدب العربي في المغرب الأقصى” : 2/69.
[16] ) ديوان ” الشوقيات” : 2/252.
[17] ) نشرها في جريدة ” رسالة المغرب ” س9. أعداد: 49 ـ 50 ـ 51 ـ 52. ( 13 فبراير 1950/6 مارس 1950م).
[18] ) أخذنا هذه الاقتباسات الموضوعة بين مزدوجتين من مقالات السوسي الآنفة الذكر ” في النقد والأدب “
[19] ) مقالات: ” في النقد والأدب ” الآنفة الذكر.
[20] ) يقصد كلا من الشعراء:علال الفاسي ( 1910 ـ 1974م) ومحمد القري (1900 ـ 1937م) والمكي الناصري ( 1907 ـ 1994م).
[21] ) يقصد الشاعر الجزائري: محمد العيد، الذي اشتهر في الربع الأول من القرن العشرين بشعره الحماسي.
[22] ) محمد بن العباس القباج: ” الأدب العربي في المغرب الأقصى “: 2/68.
[23] ) محمد المختار السوسي” ” الرسارات البونعمانية والشوقية ” ص: 136 ـ 142.
[24] ) المختار السوسي: ” الرسالتان ” ص.149