أحمد زنيبر: استراتيجية الكتابة في مذكرات محمد المختار السوسي
أحمد زنيبر[*]
* / تـوطـئـة
يحتل العلامة محمد المختار السوسي مكانة مرموقة، ليس فقط في سماء الثقافة المغربية فحسب؛ وإنما في ربوع الثقافة العربية الإسلامية عامة، إلى جانب أعلام مغربية أخرى كعبد الله كنون ومحمد المنوني وغيرهما، وذلك بالنظر إلى الحضور القوي الذي ميزه، عن غيره، كقيمة إنسانية وأدبية، وتبعا كذلك لما رامه من نصوص علمية وإبداعية قمينة بالقراءة والمتابعة والتحليل والمناقشة…
ولعل من أبرز مظاهر هذا الحضور، ما تمثل في العناية الفائقة التي أولاها محمد المختار السوسي للتراث المغربي، رواية ودراية، من جهة، وما تجلى في الرعاية الكبيرة التي خصها لشؤون الفكر والفن والأدب، عبر تجلياتها المختلفة، تأليفا وتصنيفا، من جهة ثانية.
لقد تنوعت كتابات محمد المختار السوسي وتباينت من حيث النهج والمنهج، كما اتسمت مضامينها بالإحاطة والموسوعية تشهد له بذلك آثاره ومصنفاته العديدة كـ”المعسول” و”الإلغيات” و”معتقل الصحراء” و”خلال جزولة” و”سوس العالمة”..وغيرها.
ونظرا لمكانة الرجل وتقديرا لأفضاله وجهوده الأدبية والتاريخية احتفت به عدة أقلام تشيد بشخصه وأعماله، سواء في أبحاث مستقلة أو في إطار ندوات وملتقيات فكرية شدت إليها أنظار القراء والمتتبعين للعمل الثقافي على حد سواء.
أما هذه الدراسة، فتبحث في بعض الجوانب التي ساهمت في بلورة المسار الأدبي والتاريخي لهذا الأديب الشهير، من خلال لحظة تأملية في جملة من مذكراته وذكرياته، الموزعة هنا وهناك، بما تشمله من مراسلات وإخوانيات وما تزخر به كذلك من مناقشات ومطارحات، علاوة على ما تقدمه من صور ومواقف إزاء المكان والأشخاص والموضوعات.
فلماذا المذكرات/الذكريات إذن ؟ وما الغاية من تجميعها وتدوينها ؟ وماذا عن الصلة التي تربطها بوجه الثقافة المغربية، آنذاك ؟ هل استطاعت أن تمنح الأدب قيمة مضافة ؟ وبالتالي، هل يمكن الحديث عن أدبية ما في هذه التجربة ؟ وأخيرا، وليس آخرا، كيف تقدم نصوص هذه المذكرات كاتبها، كشاهد عيان على المرحلة ؟..
* / فـي دواعـي الكتـابـة
شكلت الكتابة لدى محمد المختار السوسي فعلا ثقافيا وإبداعيا في ذات الآن، بالقياس إلى حجم الواقع الأدبي الذي عاشه وعايشه، حيث تبدى ذلك واضحا من خلال انشغاله بتدوين كل ما يرى لذكره فائدة للتاريخ، سواء ما تعلق بتاريخ إقليم سوس خاصة وبتاريخ المغرب عامة، أو ما كان له صلة بتجربته الفردية، كذات فاعلة ومنفعلة ببيئتها. ومن ثمة، كانت كتابته، بمعنى من المعاني، سفرا في الزمان والمكان حينا، وفي الذاكرة والوجدان حينا آخر.
إنها كتابة تشهد على مرحلتها، من خلال توريط صاحبها في الدخول مع القارئ، بكيفية أو بأخرى، في عرض تفاصيل زمنها التاريخي وبحث ملامحه وكشف أسراره الملغزة.
لقد تعددت دواعي الكتابة، عند محمد المختار السوسي، واتسعت دلالاتها، حيث إنه لم يبخل بتقديم مختلف الإحالات والإشارات، بشكل عفوي وتلقائي، عن تلك اللحظة التاريخية التي يستعيدها أو تلك الشخصية الأدبية التي يستدعيها، مستمدا عونه في ذلك، من “سلطة الذاكرة” في بعدها الماضوي، باعتبارها مرجعا أساسيا يتم توظيفه أثناء التعامل مع التأريخ للذات الكاتبة، من ناحية، والتأريخ للمرحلة المستعادة، من ناحية ثانية.
وخلال عملية الاسترجاع هذه، تتبين رغبة المختار السوسي في الحرص على ضمان الانسجام بين وعيه الجمالي ووعيه التاريخي، أثناء لحظة الكتابة.
يقول المختار السوسي مثلا في تقديمه لكتاب (الإلغيات):”هذا كتاب كالكشكول يضم ما بين دفتيه كيف النفي سنة 1355هـ إلى مسقط رأسي وأسبابه وكل ما يروج حولي أو أروج فيه، أو نظمته من القوافي..أو خوطبت به من الإلغيين الأدباء. كما يضم أفكارا وخواطر سانحة ومقالات دعت إليها الحاجة..والمقصود من كل ما يضمه الكتاب أن يكون صوانا للمذكرات. ولكل ما يسنح حولي هناك. كيفما كان”[1].
فالغاية تبدو جلية، من خلال هذا الشاهد، إذ تتوجه رأسا إلى ترصد الذكرى وتصيدها كلحظة عابرة في الزمان والمكان، من أجل إحيائها وإعادة بعثها من جديد. كما يظهر التنوع مقصودا في الجمع بين القوافي والأفكار والخواطر والمقالات جلبا للفائدة التاريخية، واستدعاء للمتعة الأدبية، في ذات الآن.
ضمن هذا السياق الاسترجاعي، نجد محمد المختار السوسي يوظف الكتابة باعتبارها وسيلة تعبير يتعايش داخلها الأدبي والتاريخي، من ناحية، وباعتبارها أداة لمقاومة النفي والاغتراب والفراغ، من ناحية ثانية. يقول في جزئه الثاني من كتاب الإلغيات: “حمدا للذي آنسني بهذا اليراع، ومد لي من تحت ظلاله الوريفة متعا لولاها لانشقت المرارة في الضلاع، وذابت الكبد من وهج الالتياع، وانصهر الفؤاد من هذه الغربة التي تكتنفني من كل جانب”[2]
وما دور هذه المذكرات، التي تنوعت صيغها وأشكالها، إلا دليل على رغبة الكاتب في تمرير تجربته وتقديم مادته/مواده، بين يدي القارئ، في قالب فني لا يخلو من عبرة وفائدة.
* / الكتابة بين الذاتي والغيري
إن مذكرات السوسي، بهذا المعنى أو ذاك، لتسد فراغا، من بين فراغات، يتمظهر أولا في تحصين الذات الكاتبة من كل إهمال أو نسيان يمكن أن يحول بينها وبين تحقيق التواصل الرمزي مع كيانها ومع الآخر. كما يتمظهر ثانيا في جلب الأنس والمؤانسة حين يغالب التذكر والحنين هذه الذات فيتورط القارئ، بصورة أو بأخرى، في الإنصات إلى تداعياتها والإمعان في انزياحاتها.
فالمختار السوسي، حين يجعل من ذاته موضوعا لهذه الذكريات، تجده يصف أدق المراحل التي مر بها أو مرت به في معاناة النفي، فيسجل، لحظة بلحظة، مرارة ذلك البعد وألم تلك الوحدة، دون أن ينسى إشراك القارئ واستدراجه فيما يريد أن يبثه من خواطر وحقائق. يقول المختار: “كنت أحب أن أكتب في أسباب هذا النفي جزءا خاصا. وبدأته بالفعل وحررت فيه بعض صفحات ولكنني ألقيته ظهريا لأشغال أخرى أهم. ولكن لخوف أن تضيع من ذلك حقائق ينبغي أن لا تضيع بل يجب أن أسطرها للمستقبل. رأيت أن ألخص ذلك هنا. فإنه حيث لا يتيسر تخصيص ذلك بجزء. فإن هذا الكتاب الذي نسميه منذ الآن “الإلغيات” أولى من غيرها وليتمش معي القارئ بتؤدة حتى أنفض إليه ما أريد أن أنفضه إليه. وليعلم أنه يقرأ ما كتب تحت صدمة النفي من قلم غريب الفكر والمسكن والبيئة.”[3].
تأسيسا على ما سبق، يمضي محمد المختار السوسي مسترسلا في ذكر مختلف الأسباب التي أدت إلى نفيه من مراكش وما تعرض له من مواقف متعددة من أجهزة الحكومة التي أساءت إلى شخصه وكرامته ولم تستحضر له ما قدم من خدمات جليلة للعلم وللوطن[4]. فتمسكه بالقيم والمبادئ الإسلامية وتشبعه بالأفكار الوطنية والقومية كانت وراء تلك الوضعية الأليمة التي اكتوى بنارها حيث التضييق والحصار، في البداية، ثم النفي والاغتراب، في النهاية.
ومن ثمة، يضع المختار السوسي القارئ/الآخر أمام تجربة وجودية ووجدانية، لا تتضح معالمها الكبرى إلا إذا وضعت في سياقها الزمني وفي علاقتها بالذات الساردة.
* / الكتابة بين النثري والشعري
من الملاحظات الهامة التي تميز مذكرات المختار السوسي السير ذاتية، أن عنصر التاريخ يشكل مادة خصبة لها، أثناء عملية الاسترجاع والاستعادة. فالسارد يوجه مذكراته صوب غاية أدبية وتاريخية، في نفس الوقت، تتحول خلالها المادة/النصوص عبر وسيط اللغة إلى تعبير إبداعي يتوسل بالنثر وأساليبه حينا، وبالشعر وتخيلاته حينا آخر، كما في قوله من قصيدة طويلة في كيفية تأثره بالغربة، استهلها بقوله: [5]
أرأيت الأيام كيف تدول *** والليالي بالسهد كيف تطول؟
ويد الدهر كيف تلعب بالحــ *** ـر؛طلوع طورا؛ وطورا نزول
بينما المرء في شروق صباحا *** إذ به في المساء عاد الأفول
فكان الفتى على منجنون *** جائل عليه لم يزل عليه يجول
ينتحي بالأحداث أرسخ ما كا *** ن فتجتث من ثراه الأصول
وهي قصيدة تجاوزت تسعين بيتا بعد المئة، تتجه موضوعتها المحورية صوب مساءلة الزمان ورصد تقلباته دونما إغفال لما يعتري الذات الشاعرة من لذة وألم في التعامل مع هذا النفي كحالة شعورية. فالشاعر يشكو الأيام ويرثي أحواله من جراء غربته الممتدة في الزمان والمكان، وهو ما يولد لديه حنينا مطلقا إلى بلدته الأثيرة وشوقا مضاعفا لمن بها من الأهل والأحبة. يقول في نهاية القصيدة: [6]
ليت شعري وقد بدا الصبح للعيـ *** ـنين هل ذاك القرار يزول ؟
فأرى نضرة الحياة لدى (الحمـ *** ـراء)أيضا حيث المنى والسول
فاشتياقي إلى مرابعها مثـ *** ـل قصيدي هذا؛طويل طويل
وهكذا، يجد القول الشعري، كاختيار وظيفي وإبداعي، منفذه إلى ذات الشاعر في علاقتها التواصلية بالآخر، عازفا على إيقاع الغربة والنفي استعارات تضفي على القصيدة بعدا جماليا بعد أن تمثلته اللغة السردية حدثا تاريخيا.
وتتوالى قصائد المختار، في موازاة مع كتابته النثرية، حيث تختلف باختلاف المكان من جهة، وباختلاف المناسبة من جهة ثانية. فهي متع وخواطر وزفرات حينا، وتذييلات ومساجلات وردود أحيانا أخرى، لعل تعقبها واستجلاء قيمتها الفنية يستدعي، لاشك، وقفة متأنية فاحصة لا تقع ضمن خطة البحث في هذه المرحلة.
* / الكتابة بين التاريخي والأدبي
كان حرص محمد المختار السوسي على تدوين كل ما مر به من وقائع وأحداث وإن كانت عابرة، وما صدر عنه من مواقف ومنظومات تفاوتت شعريتها، موجها، في المقام الأول، إلى خدمة التاريخ بمفهومه الواسع. يقول المختار: “كما أنني أيضا أضع فيه كل ما جاشت به الفكرة كيفما كان. فلذلك يرى فيه القارئ بعض منظومات صدرت مني. لا تمت إلى الشعر إلا بالوزن وحده والقافية. وكان الأجدر – لو كنا ننتخب – أن يلقى غالب ذلك في سلات المهملات. ولكن حرصا على ما يحيط بحياتي في هذه الغربة وعلى تقييد كل ما أمكن من الخواطر التي ترد علي فيها…وأنا أكتب للتاريخ الذي يقبل كل شيء لا للأدباء وحدهم الذين لا تستهويهم إلا النخب العبقرية..” [7]
ها هو ذا المختار السوسي، إذن يعفي القارئ الناقد من كل حكم قيمة يمكن أن يوجهه، بعد القراءة، إلى منظومه في هذا الكتاب/المذكرات؛ غير أن ذلك يسجل لصالح الشاعر لا عليه، فتواضعه الأدبي الذي عرف به وتذوقه الفني المشهود له به، هو ما جعله يضع القارئ في الصورة، من خلال محاولة “التمييز” بين ما هو تاريخي وبين ما هو أدبي إبداعي. ومع ذلك يظل الأدب والتاريخ وجهان لعملة واحدة، فمذكرات المختار تمزج، بكيفية أو بأخرى، بين المادة الخبرية المستعادة من الذاكرة وبين تدبير إيصالها على المستوى السردي أو على المستوى الشعري. الأمر الذي يتعذر معه، في النهاية، إقامة الحد بين الأدبي والتاريخي، أي محاولة فصل الخبر عن لحظته التاريخية من ناحية، واستقبال المتن المقدم بمعزل عن أدبية النص وجمالية تلقيه، من ناحية ثانية.
يتضح مما سبق، أن محمد المختار السوسي ظل في مذكراته مرتبطا بذاته عبر مواقفها المتضاربة، إقبالا وإدبارا. ومن ثمة، تباينت تعبيراته عن هذا المنحى من خلال تشغيل الذاكرة تارة وتنويع الأداء الفني تارة أخرى. فإذا كانت كتابة المختار النثرية تتخذ اللغة باعتبارها وسيلة وصف وتبليغ؛ فإن شعره تمثل اللغة رموزا وانزياحات من خلال توظيف الخيال والمتخيل.
وهنا ينتصب أمامنا سؤال عريض مفاده: ما الحد بين النثري والشعري في كتابة المختار؟ وأي التعبيرين كان منجذبا إليه دون غيره ؟ قد يكون النثر لسيولته وانسيابه. وقد يكون الشعر لعذوبته واختزاله. ولم لا يكونان معا، حيث الغاية تبرر الوسيلة، كما يقال، وهي في هذا الإطار، بلوغ الفائدة التاريخية، من زاوية، وتحقيق المتعة الأدبية، من زاوية ثانية..
* / الكتابة بين الشكل والمحتوى
تنوعت مراسلات محمد المختار السوسي، المتضمنة في أحشاء مذكراته وذكرياته، تبعا لتنوع أقلامها وتعددت بتعدد أصحابها. يقول المختار في تقديمه لكتاب (ذكريات): “مجموعة فيها رسائل وقصائد من الإخوان تغربت معي، فأردت أن أخلدها جزاء لها حين تؤنسني، كلما أمررت بصري عليها…إن هذه ما استحقت عندي هذا الاعتناء،إلا لكونها من أوداء يعزون علي، وقد حفظت لي أنفاسهم، فكانت تفوح بها علي كلما راجعتها، وأعدت تلاوتها…فهي جارة قلبي حين أقرأها فأضمها إلى صدري.” [8]
ففي هذا الشاهد، تبدو العلاقة بين المؤلف ونصوصه المستعادة حميمة تتحكم في نسج أبعادها الوجدانية سيولة اللغة وإحكام الصنعة وجمالية التأليف، دونما الحديث عن أفق التداعي في اختراقه لفضاء التداول، تشكيلا وإيقاعا. بل إن بحث المؤلف عن المتعة والمؤانسة ومعهما تخليد الحدث وتكريم الشخص المترجم له طبعا، هو ما يحرك هاجس الكتابة ويتحكم في وضع استراتيجيتها المعتمدة.
هكذا، حين يعرض المختار لنخبة من الأدباء والشعراء والأصحاب الذين جمعته وإياهم صلة من قريب أو من بعيد، تراه يستعيد ذكرياته الماضية معهم بكل تفاصيلها أحيانا، معبرا بذلك عما يعتريه من إحساس عميق كلما أعاد أو استعاد لحظة التذكر تلك، وهو إحساس الأنس والتلذذ بالنص وصاحبه وفاء له واحتفاء بتجربته[9]. يقول: “مددت يدي إلى بعض آثار من رسائل الإخوان قدر لها أن توافيني في منفاي، فصرت أقلبها فأجدني إزاءها، كأنما توصلت بها اليوم، مع أن بعضها مر عنه سنوات، فظلت ساعة طويلة أقرأها وحدي في غرفتي هذه، حيث لا أنيس ولا جليس ولا سميع، فوجدت لقراءتها من اللذة والغبطة ما كنت لو تيسر لي أن أتوصل من جديد برسائل أخرى من أولئك الإخوان”[10].
ثم يمضي المختار في سياحة خيالية، عبر أمكنة متعددة منها فاس والرباط والبيضاء ومراكش زار فيها كل الأحباب ممن ألف عشرتهم واستطاب أحاديثهم، فيتوقف عند بعض الإشارات التي تثبت نوعية الصلة التي تجمعه بالمروي عنهم ومدى الإفادة منهم، كقوله في أبي بكر التطواني السلاوي، مثلا: “أعجبت بالرجل لأنني أستفيد منه كثيرا، وكان المثل الأعلى للجليس الذي أحن إليه دائما…وأشهد أنني قلما أصادف للتطواني نظيرا.”[11] أو قوله في محمد الكانوني مؤرخ آسفي: “كنت أعجب دائما بإلمامه الكثير بالتاريخ وباستحضاره لكثير مما لم أعرفه، فكنت أستفيد منه الشيء النفيس ولا أحصي لكم كم أفادني ونبهني على أسماء كتب، وحوادث غريبة، وأسماء رجال..”[12] دون أن نغفل حديثه عن شاعر الحمراء، حين يقول في حقه: “إنني أقر بما لهذا الشاعر من تأثير غير مباشر في أول حياتي الشعرية، فبه ارتطمت في التورية وما إليها…ولكنني لم أدرك شأوه، ولا شققت غباره، مع ولوعي بالفن..” [13]. فالشاعر يعترف علنا بفضل الآخر عليه، ولا يحرجه في ذلك أن يكون مدينا لمن أفاد من علمه وخبراته.
لعله في مثل هذه الإحالات، وهي كثيرة، ما يعطينا لمحة تقريبية عن شخصية المختار السوسي الأدبية وعن طبعه وخلقه حيث “التواضع العلمي” حاضر بقوة، ولذلك لا غرابة أن نجده ، في سياق آخر، لا يرد على رسالة بها كثير من المدح والإطراء لشخصه، كما فعل مع مولاي الصديق العلوي الفاسي، حيث يقول: “أحسب أنني لم أكن أجبته عن هذه الرسالة، لأنني أكره من يعرفني فوق قدري وإن كان عندي غير متهم، كهذا الأخ الصريح.” [14]
وهكذا، إذا استرسلنا في عرض الشواهد المتعلقة بمراسلات المختار السوسي مع غيره، نتبين قيمة المادة المستحضرة التي يعرضها أمامنا، كشكل من الأشكال الفنية، إذ ثمة إشارات أدبية ونقدية تعكس، بصورة من الصور، ذلك الوجه الثقافي للمرحلة التي عاشها المؤلف، تفاعلا وانفعالا.
ففي الرسالة البونعمانية، على سبيل المثال لا الحصر، نقف عند جملة من القضايا التي كانت رائجة في سوق الأدب آنذاك، على رأسها مفهوم الشعر ومقاييس النقد وقضايا اللغة والوزن والعروض والإعراب..، وغيرها من أمور تمس عمق رسالة الأديب/الشاعر في علاقته بالواقع، تجربة وإبداعا. فانظر إلى المختار حين يضمن رسالته الموجهة إلى الحسن البونعماني قصيدة همزية مطلعها: [15]
اليوم نظفر بالمنى جمعاء
الآن حق النذر حين تلألأت
لما رأينا وجهك الوضاء
تلك الأسرة بيننا لالاء
طالبا منه إبداء الرأي واختبار الإبداع، حيث يقول: “انتهت القصيدة..وهي كما ترى أيها الشاعر متوسطة في نسجها، وإن كانت في باب الإخوانيات الإلغيات حسنة…فماذا تنتقد أنت أيضا بدورك منها من جديد؟ فإن كان هناك ما تنتقد فانتقد الأسلوب، والخلو من المعاني المبتكرة ومن الوثبات الخيالية. وأما من جهة التركيب العربي واللغوي فقد مرت المسكينة تحت ثقاف لا يرحم، وقد بالغ الأستاذ الافراني في انتقادها، حتى اضطررت أن أصلح فيها كلمات منها..” [16]
يفصح هذا الشاهد/المثال، في سياق زمانه وظروف إنتاجه، عن الرؤية النقدية التي سادت أجواء بعض المجالس الأدبية. كما يشير إلى تلك المقاييس المعتمدة في محاورة المتن المختبر، نقدا وانتقادا.
وكما حاور المختار السوسي أدباء وشعراء من أقرانه ومجايليه، نصادف في مذكراته أيضا، نماذج منتقاة تبادل خلالها الأشعار والخطابات مع زمرة من التلاميذ الذين كانوا يأخذون أسس العربية المتينة في زاوية (الرميلة)، حرصا منه على تشجيعهم وتقويم سلوكهم. والملاحظ، في هذه التجربة، أن منظوماتها وأشعارها تنوعت بتنوع الموضوعات والأوزان والقوافي، من جهة، وتباينت أساليبها لفظا وتركيبا وصيغا صرفية، من جهة ثانية[17]. وقد كان المختار لا يترك فرصة للتعبير عن بهجته وفرحته العظيمتين كلما طالعته أخبار تلاميذه أو أولاده كما يطيب له أن يصفهم. يقول: “أما أحمد شوقي فقد تسربت إلي وأنا في منفاي هذا جملة من أقواله فكنت كثيرا ما أتناولها، فأتملى بإنشادها، وأشدو بقوافيها، فأجدني في أعلى عليين.” [18]
* / خـلاصـة تـركـيـبية
لعلنا، من خلال البحث في المذكرات، نستوضح كيف يتحدث محمد المختار السوسي عن ذاته وكيف يكتب عنها تأريخا وترجمة. فأخباره وأشعاره التي أوردها، هنا وهناك، والشخصيات والأسماء التي احتفى بأعمالها، تؤكد أن استراتيجية الكتابة في هذا المضمار، رامت تحقيق جملة أهداف، منها:
1 – استحضار التاريخ كقيمة حضارية.
2 – مقاومة الذاكرة للفراغ والنسيان.
3 – دعوة الذات إلى التأمل واستخلاص العبر.
4 – تفعيل التواصل عبر وسيط اللغة.
5 – الدخول في محاورة مفتوحة مع الذات والآخر.
هذه الأهداف، وغيرها، تمت بلورتها، كما ألمحنا، بأشكال إبداعية متفاوتة الحجم والدلالة، نثرا وشعرا، حيث امتزج خلالها النص المستعاد بالذات الكاتبة. هذه الأخيرة التي ارتسمت صورتها، ضمن فضاء هذه المذكرات، وقد أفعمت بالحياة والتجدد والتنامي رغم كل المعيقات التي واجهتها.
إنها الكتابة في بعدها السامي وفي قدرتها على جلب التواصل وتوجيه التعبير، من جهة، وبفضل ما أوتيت من كفايات وقدرات جعلت من وسيلتها اللغوية رمزا لتطوير الثقافة، بمفهومها الشامل، ومدخلا لإثبات الذات والهوية، من جهة ثانية.
هكذا إذن، تبقى القيمة الأدبية والتاريخية لمذكرات محمد المختار السوسي مرتبطة بنوعية قراءتها، كما تظل القيمة الإبداعية والجمالية لهذا الصنف من الكتابة مرتبطة أيضا بأشكال تلقيها وصيغ تأويلها.
أخيرا، يبقى محمد المختار السوسي، بين هذا الرأي وذاك، حاضرا، بكل المعاني، في ضمير التاريخ الفكري والأدبي، وحاضرا أيضا في الذاكرة المغربية، كأحد المراجع العلمية الهامة، التي لا غنى للقارئ الباحث من الرجوع إليها والإفادة منها…
[*] – أستاذ باحث من المغرب
هـــــــــــــوامــــــــش
[1] – الإلغيات. محمد المختار السوسي. مطبعة النجاح. الدار البيضاء. 1963. ج 1 ص 3
[2] – الإلغيات. ج 2 ص 3
[3] – الإلغيات. ج 1 ص 7
[4] – انظر تفاصيل ذلك في الإلغيات. ج 1 ص 7-75
[5] – الإلغيات. ج 1 ص 61
[6] – الإلغيات. ج 1 ص 68
[7] – الإلغيات. ج 3 ص 4
[8] – ذكريات . محمد المختار السوسي. مطبعة الساحل. الرباط. 1984. ص 3
[9] – انظر أسماء هذه الشخصيات التي أوردها المؤلف في كتابه(ذكريات)
[10] – ذكريات . ص 6
[11] – ذكريات . ص 31
[12] – ذكريات . ص 37
[13] – ذكريات . ص 52
[14] – ذكريات . ص 17
[15] – الرسالتان البونعمانية والشوقية. محمد المختار السوسي. مطبعة المهدية. تطوان. ص 140
[16] – الرسالتان . ص 142-143
[17] – انظر نماذج من هذه الأشعار المتبادلة بين الشاعر وتلاميذه في الإلغيات ج 3 . ص 144-165
[18] – ذكريات . ص 64
نقلا عن موقع وزارة الثقافة :