مقدمة الأستاذ محمد بن عبد الله الروداني لكتاب «إليغ قديما وحديثا»
للعلامة الفقيه سيدي محمد المختار السوسي
الناسخ: الحبيب الدرقاوي
ترجمة المؤلِّف
جرت عادة الناشرين للكتب أن يصدروها بتراجم مؤلفيها ليكون القراء على علم بأمرهم، ولكن مؤلِّف هذا الكتاب ليس بخفي فنبينه، ولا بنكرة فنعرفه، فقد منحه الله شهرة طبقت الآفاق، ورزقه من الصفحات المحمودة ما توغل به في جميع الميادين، واشتهر به بين جميع الطبقات؛ فهو العالم، الأديب، الفكِه، المرح، الصوفي، المتقشف، المتنسك، الوطني، السياسي، اللبق، الذكي، النبيه، المتغافل، الحَيي، الوزير، الفقيه، المحدث، المؤرخ، البحاثة، إلى غير ذلك مما يقل أن يجتمع للناس، ولكن أحدا لن يستطيع أبدا أن يصفه بالأوصاف المسترذلة كالانحطاط والإسفاف، أو العتو والتجبر.
ومع أن أحواله وأوصافه ما تزال معروفة، ولما يطل العهد بعد على وفاته، فقد رأينا من الواجب إلحاق ترجمته هنا، إذ لا سَرَف في الخير، وإن لم يكن خير في السرف.
فقد ولد في قرية بناحية تازروالت بأقصى جنوب القطر السوسي بالجنوب المغربي، في صفر عام 1318هـ من أبوين كريمين، والناس معادن؛ هما الشيخ الصوفي الواصل العارف المربي سيدي الحاج علي بن أحمد الدرقاوي، المتوفى 28 ذي الحجة 1328هـ [المعسول: 1/184]، والسيدة الفضلى رقية، بنت الأستاذ العلامة الكبير محمد بن العربي الأدوزي، المتوفاة في 12 ربيع الأول 1342هـ [المعسول: 3/39]، ووالدها في 5 جمادى الأولى 1323هـ [المعسول: 5/149].
فنشأ في بلدته تلك، حيث الطبيعة الجافة القفار في كل ملطف أو مرفه، يكافحها الإنسان وتكافحه، وحتى إذا لم ينتصر عليها فلا أقل من أن يتمرس بها ويتدرب على مواثبتها، وكذلك ظل هذا المولود إلى أقصى نفس من حياته، وقد اختار له جده لأمه اسم «محمد»، ولكن لما أخبره الوالد بأن له ولدا قبل هذا يحمل نفس الاسم، أمر أن يضاف إلى هذا وصف «المختار» لينماز عن الأول، فكان «محمدا المختار».
وبما أن أباه يشغل في مجتمعه مركزا دينيا يدعو إلى التفاف المتسمين بالدين والخير حوله، فقد كان معلموه الأولون من أتباع والده ومريديه، فعنهم أخذ القرآن ومبادئ المعارف الإسلامية التي كانت متداولة، وقد شاءت الأقدار أن يفقد أباه بعد عشرة أعوام من ميلاده -أي في 28 ذي الحجة 1328هـ-، ولكن محيط أهله من أقارب ومريدي الوالد كانوا يحثونه على متابعة التعلم، وخصوصا أخاه الأكبر سيدي محمد خليفة والدهما في الزاوية [المعسول: 2/33]، وصهرهما أليف والدهما سيدي سعيد بن محمد التاناني المتوفى في 16 ذي القعدة 1343هـ [المسعول: 5/15].
وكان من جملة المدارس التي التحق بها في إيفاعه؛ مدرسة تانكرت بإفران القطر السوسي، عند شيخ الأدب الرائع الأستاذ الطاهر بن محمد الإفراني، المتوفى رمضان 1374هـ [المعسول: 7/69]، يساعده ولده العلامة الأديب سيدي محمد، المتوفى 21 ربيع الأول 1377هـ [المعسول: 7/238]، والعلامة الأديب المتضلع المولى عبد الرحمان البوزاكاري المستشهد بالرباط مدوسا بسيارة، مساء 17 رمضان 1380هـ، والمدفون بمقبرة سيدي الخطاب بباب العلو بها [المعسول: 10/90]، فلم يفارقها حتى أصبح يتذوق الأدب الرفيع، وصار له اطلاع في آلاته وفنونه، مما أعانه على المضي فيه قدما، ومن العجب أن غالب هؤلاء السوسيين الشلحيين يبرعون في العربية وأدبها، فيتكون منهم فحول الكتاب والأدباء والشعراء.
وبعد تقلبات شتى تعتري في هذه السن الأيتام المهملين -على حد تعبير الفقهاء-، ولا داعي لإيرادها، ومن أرادها فليطالع له كتاب «الإلغيات» بأجزائه الثلاثة، فإن عناية الله ساقته إلى دخول مراكش بعد عشرة أعوام من وفاة والده -أي في سنة 1338هـ- بقصد التمادي في لب العلم، فسكن مدرسة ابن يوسف، وأخذ يتردد على دروس الجامعة اليوسفية، فلم يكن -إلى الآن- أكثر من طالب عادي يتردد على حلقات أساتذة عاديين على النمط العتيق، أي: مزاولة ألفية ابن مالك، ومختصر الشيخ خليل، وجمع الجوامع، والتلخيص، مع جمود تفكير، وتقليد بالغ في تدين وصلاح وحسن النية، إلى أن حل بها في سنة 1342هـ الأستاذ الحافظ شيخ الإسلام أبي شعيب الدكالي المتوفى عام 1356هـ/1937م، فرأى فيه مترجمنا من إتقان الحفظ، وسعة الإطلاع، والتصرف المحكم الحر، والتدفق الغزير، والفصاحة الخلابة، ما جعله يعيد النظر في كل ماضيه ومحيطه من معلومات وأساتذة خصوصا -وهو وليد الوسط الديني-، فقد شاهد كيف يكون إتقان العلوم الدينية من حديث وتفسير وأصول، وكان كما قال: «ثم في سنة 1342هـ طلع علينا السعد بطلوع السيخ أبي شعيب الدكالي، فكان ذلك في حياتي إجافة لباب، وفتحا لباب آخر»، فلزم الجِد في الدرس، وجعل غايته أن يبلغ مبلغ ذلك الشيخ، وحيث إن كُلا ميسر لما خلق له، فبينما صاحبنا يجد ويجتهد ليل نهار ليصل ما جعله نصب عينيه، إذا بتحول آخر، لا يقل عما أحدثته رؤية الشيخ يدب في حياته؛ وذلك أن الأقدر ساقته من غير إرادة منه إلى طلب العلم بفاس في مفتتح عام 1343هـ، صحبه شقيقيه الأستاذين الفاضلين القاضي سيدي عبد الرحمان -المستشهد في زلزال أكادير في 3 رمضان 1379هـ [المعسول: 2/268]-، والأستاذ إبراهيم -المستشار حالا بالمجلس الأعلى للعدل-، فكان من مظاهر عظمة المترجم أن ضم إليه أخويه هذين، وتحمل أعباء نفقتهما وتعليمهما، فكانا كما أراد وأكثر.
ولم يكد هذا السوسي الذكي المتصوف الدرقاوي المنكمش، الذي سبق له أن وعى ما وعى من أمهات الفنون في بلده، وفي مراكش، مع التعمق في المواد الأدبية، لم يكد يخالط نجباء الفاسيين المترددين إلى جامعة القرويين حتى كهربوه بكهربتهم، وصهروه في بوتقتهم، وكان من حسن حظه أن دخل هذه الجامعة في وقت كانت فيه على أبواب تحول جديد تتهيأ له في أشخاص جماعة من أترابه من أدباء البيوتات المغربية المجيدة في مثل مجد بيته وأسرته؛ منهم الأستاذ الجليل سيدي إبراهيم بن أحمد الكتاني (أبو المزايا) كما يلقبه كلما ذكره في مؤلفاته، وما أكثر ما يذكره، والأستاذ العلامة المضحي المخلص الجليل سيدي محمد غازي المكناسي، والعلامة الكبير الأستاذ سيدي علال الفاسي، الذي يلقبه (شاعر الشباب)، وقال أنه رآه لأول مرة شبا نحيفا عند قيامهم من درس في مقامات الحريري على شيخ الإسلام سيدي محمد بن العربي العلوي المطغري -المتوفى يوم الخميس 22 محرم عام 1384هـ/ 4 يونيه سنة 1964م-، ومولاي الصديق العلوي الأستاذ الجليل -المتوفى في أكتوبر 1936م/ رجب 1355هـ-، والسيد عبد الهادي مكوار، الذي اشتغل بعد ذلك بالتجارة بالدار البيضاء، وكان أمينا لتمويل المدارس الحرة بها، أيام كان التعليم مقترا على المغاربة، والمتوفى بها في 4 صفر 1381هـ/ 18 يوليوز 1961م، وأبناء الأسرة الفاسية المجيدة العلماء الأجلاء الدين منهم العلامة المؤرخ سيدي العابد الفاسي، والأستاذ محمد الفرسيوي الوزاني -القاضي حالا بمراكش-، وغيرهم ممن يكفي هؤلاء المذكورون كمثال لهم.
وفي هذا الوقت نفسه تعارف مع الأستاذين الرباطيَين الجليلين؛ الشيخ محمد المكي الناصري، والرئيس المحترم الحاج أحمد بالافريج، إذ كان يَرِدان على فاس للاتصال بتلك النخبة التي يربطهم بها ما كتبه الله لهما في الأزل من المشاركة في الكفاح، فكانا يحضران الأسمار في بيت المترجم بالمدرسة العنانية، وربما يبيتان معه فيه إن اقتضى الحال (وسم الخياط مع الأحباب ميدان) كا يقولون، كما كانوا يتصلون بأمثالهم من تطوان، كالأستاذين الأخوين الحاج عبد السلام بنونة، وأخيه الحاج مَحمد.
قال عن هذا الطور في (الإلغيات): «ومن هناك تمخضت الفكرة الوطنية المتركزة على الدين والأخلاق السامية، وكنت أصاحب كل المفكرين إذ ذاك، وكانوا نخبة في العفة والدين، ينظرون إلى بعيد»، وهذا يعطينا صورة عن الوطنية المغربية الأولى، التي كان هذا الاستقلال الذي نتمتع به ثمرتها، والتي استحالت مع تطاول الأيام إلى هذا الخليط من الأخلاق الأوربية المغربية عنا، كما نحن غرباء عنها، وكان صقيل أذهانهم، محك قرائحهم، ومستمد مطامحهم، هو منتدياتهم فيما بينهم، ودروس سيدي محمد بن العربي العلوي الذي يقلبه المترجم (موقظ الهمم).
ولما أرادوا البروز إلى ميدان العمل؛ حولوا الزاوية الناصرية بفاس إلى مدرسة، قام على إدارتها الأستاذ الجليل سيدي محمد غازي، وصاروا هم أساتذة متطوعين فيها للتعليم أولا، ثم لبث أفكارهم وتعميم دعايتهم ثانيا، وزيادة على التنظيمات الثقافية التي أحدثوها للمدرسة فيما بينهم، وترأسها المترجم لأنه هو مقترحها، فقد أسسوا جمعية سياسية سرية في 12 رجب 1344هـ، ترأسها أصغرهم سنا؛ وهو الأستاذ الجليل سيدي علال الفاسي.
وكانت السلطة الفرنسية غافلة عنهم لظنها أنها أقبرت المغرب إلى الأبد، ولكن لن تلبث حركتهم هذه أن لفتت الأنظار، فأُغلقت المدرسة، ونُفي الأستاذ محمد غازي خارج فاس، فلم يلبث بعض من ليس بفاسي من هذه الجماعة كالمترجم والقاضي الفرسيوي أن ضاقت بهم فاس من جراء المضايقات الاستخبارية والتتبعات السياسية، وحينئذ فارق فاسا بعد القبوع في مدرسته عدة أشهر، فارتحل إلى الرباط سنة 1347هـ، حيث توجد جماعة من العلماء الذين يفكرون تفكيرا سلفيا محضا؛ منهم شيخ الإسلام أبو شعيب الدكالي -المتوفى عام 1356هـ/1937م-، والعلامة الشريف سيدي المدني بن الحسني -المتوفى عام 1378هـ-، والعلامة سيدي محمد بن عبد السلم السايح -المتوفى بها عام 1367هـ/ 1948م-، فتفرغ للأخذ عنهم، وملازمة مجالسهم، كل ذلك مع عدم التفريط في تربية شقيقيه السيدين عبد الرحمان وإبراهيم.
وفي الرباط؛ خالط نخبة أخرى كانت هي مبدأ النور فيها، منهم خليصه الذي لا يكاد يفارقه؛ وهو الأستاذ الأديب الألمعي سيدي محمد بن العباس القباج، الذي لا يفتأ يردد ذكره في كافة كتبه، والعلامة سيدي محمد بن أبي بكر التطواني، والعلماء الأجلاء سيدي أبو بكر بناني، وسيدي المصطفى الغربي، وسيدي المصطفى بن محمد بن المبارك، وسيدي عبد الله بن العباس الجراري، وسيدي التهامي المعروف، والشيخ عبد الرحمان الدكالي ابن شيخ الإسلام أبي شعيب الدكالي، وسيدي عبد الله الركراكي -قيم المكتبة العمة حاليا-، والشاعر الفحل سيدي محمد بن اليمني الناصري، وغير هؤلاء ممن ينتابون دروس أولئك العلماء.
وهكذا؛ نرى الأستاذ المختار السوسي تسوقه الأقدار إلى مخالطة الأوساط الطيبة النيرة ليشحذ شفرة تفكيره على مختلف المشاحذ، ويلون لوحه تصويره بأزهى الألوان، فبعد النشأة الصوفية المتقشفة المتنسكة التي فتح عليها عينيه بين والديه، انتقل إلى طائفة الشيخ الطاهر الإفراني، وتموج مدرسته بالأدب الرائع الخلاب، ثم إلى الاجتهاد الهادئ الرتيب في العلوم الدينية بالجامعة اليوسفية، مع ابتداء الإطلاع على مبادئ مظاهر الحضارة ومآثر التاريخ بمراكش، مما لا وجود له التبة فيما وراءها من القطر السوسي، ثم الارتواء من معين الوطنية الصافي والإصلاح الشامل بين رواد المدرسة الناصرية، وحلقة الشيخ محمد بن العربي العلوي بجامعة القرويين، ثم إلى عاصمة المغرب رباط الفتح، حيث بئر معين العلم الصافي من فيض العلماء الثلاثة المذكورين، وحيث المجتمع الرباطي المتزن الوقور، الذي تنصهر فيه جميع الأخلاط، وتنهضم كل المواد، مع اللباقة والطموح، بعد المرمى.
فلما عاد إلى مراكش سنة 1348هـ، عاد مزودا بكل ما يؤهله للقيام بالدور الذي قام به فأثار حسد الحاسدين، وتنافس النافسين، وغصب المستعمرين، من إنتاج أدبي رصين، وإطلاع في المعارف فسيح، فصبر على الشدائد وطيد، ووطنية صادقة لا تعرف النكوص على الأعقاب، ولا المهاودة في الأهداف، وقد أدرك أن معاودة الاستيطان بسوس وَأْد لكل ما حصله وما خالطه، خصوصا أن أهلها لا يزالون يغطون إذ ذاك في تفكير القرون الوسطى من الوجهة الاجتماعية والفكرية، فاختار المُقام بمراكش ليكون صلة وصل بين القطر السوسي والحواضر المتيقظة المتوثبة.
وحيث إن الله تعالى إذا أراد أمرا هيأ أسبابه؛ فقد أحله في زاوية والده بالرميلة بباب دكالة، تجاه المسجد الواسع -الذي بنته هناك الحرة مسعودة الوزكيتية والدة المنصور السعدي-، يعلم صغار بعض إخوته، وبعض صبيان أسرته، ويلقي بعض الدروس العامة بالمسجد المذكور، فلم يكد جيران الزاوية يحسون فيها الحركة العلمية، حتى صاروا يسوقون إليها أولادهم، ثم صار غيرهم على أثرهم، حتى أصبحت تلك الزاوية صورة مكبرة للزاوية الناصرية بفاس، كما أنها أصبحت محطة لكل مثقف ورائد معرفة ند من القطر السوسي نحو الحواضر المغربية، وكان رحمه الله يحسن إيواء أبناء البيوتات العلمية السوسية، ويشجعهم ويدربهم على تحمل التقشف وشظف العيش في سبيل تحصيل العلم، وكانوا يجدون عنده من الرحب والسعة ما يحبب إليهم إلقاء عصا التيسار لديه، وله في ذلك لباقة وإقدام وخبرة قل من يطيق الاضطلاع بها، إذ كان يشحذهم ويدربهم عنده، ثم يبقيهم في بيوت ذوي اليسار يعلمون أولادهم الذين كثيرا ما يكونون ملتحقين بالمدارس الفرنسية الحكومية، فيفيدون ويستفيدون، كما ينيط بهم بعض الدروس بالزاوية كل على قدر بلاغته وثقافته، وقد نظم ذلك تنظيما محكما بسيطا، كان فيه هو مثال الاستقامة والنزاهة والمواظبة والامتثال لأوامر الله ووحي الضمير، فكان كل من في الزاوية يجله يكبره يسرع إلى امتثال أوامره، فالدراسة جدية، والقوت بسيط كاف، والصلوات تؤدى جماعة في أوقاتها، والنوم بعيد العشاء، والانتباه قبيل الفجر، والمذكرة حرة طليقة، والخزانة زاخرة بالنفائس القديمة، ولا يميز نفسه ولا أهله على الطلبة بشيء، ولا يستأثر دونهم بشيء، بل كثيرا ما يغمط أهل بيته حقوقهم ليرفه بها على الطلبة.
وهناك تجلى دور الأستاذ المختار في الصوفية الوطنية، إذ كانت حياة والده قد تقضت على الصوفية النسكية، وكانت الوطنية إذ ذاك غضة طرية، تمثل نوعا من التنسك والعبادة والجهاد في سبيل الله، الذي يرى أن التربية المغربية جزء من التراب الإسلامي العام، الذي يجب على كل مسلم تهيئ الأسباب لتحريره ونصرته.
ولكن الحساد والمنافسين من جهة، وتتبع الاستعمار له من فاس من جهة أخرى، ما كانت لتغفل عن هذه الفسيلة الطيبة لتصبح دوحة باسقة يتفيأ الناس ظلالها، فكانت تخربت جامعة القرويين وجامعة ابن يوسف وغيرهما، فإغراء نبغاء العلماء على حلقاتهم بالوظائف السامية المدرة، سار المستعمرون معه أيضا على نفس الطريقة لعله ينسحب من الميدان، وكان من عادته عندما يرى الخروج لأوطاره أن يرافق الشادين من طلبته، فكان من حَظِّي أن أخرج معه ذات مرة، فأمر سائق العربة العمومية ذات الفرسين أن يتجه صوب مكتب الاستعلامات، المعروف بدار زنيبر، فلما دخل بقيت أنتظره بالباب، ولما كنا في طريق الرجوع قال لي: إن هؤلاء استدعوني وعرضوا علي أن أي وظيفة أختارها، فقلت لهم: إنما أنا رجل دين وإرشاد عام، كما كان والدي، ولا غرض لي بما تحولني عن ذلك، وأنهم يريدون أن يقطعوا علي الطريق بوضع لهية من لهاهم في لهاتي، وهيهات لهم مني ذلك، وقد كنت ولله الحمد محل ثقة منذ التقينا من نحو ثلاثين سنة، حتى صار إلى عفو الله وواسع رحمته.
وما دمت بصدد قصة أحواله، فلا بأس أن أزج القارئ في قراءة كيفية اتصالي به، لما فيها من مزيد الكشف عن نفسه رحمه الله؛ فقد خرجت صبيحة يوم جمعة إلى زيارة قبل والدي بالمقبرة الكبرى خارج باب الخميس بتارودانت، بعد صلاة الصبح،فلما وقفت على القبر وجدت إزاءه رجلين، لم أتبين وجوههما، قال أحدهما للآخر: ها هو ذا، فعلمت أنه أستاذي في القرآن، تلميذ والدي سيدي الحسن ابن مولود السكتاني رحمه الله، فما سلمت عليهما، قال لي: هذا سيدي عبد الله ابن الشيخ سيدي الحاج علي، وإننا قد صلينا الصبح هنا، وقضينا وطرنا من الزيارة، فإذا قرأت ما تريد ودعوت، فالحق بنا لبيتي، ولم أكن قد رأيت سيدي الحاج عبد الله من قبل، فلما التحقت بهما، جهل هذا يحدثني عن مدرسة أخيه المترجم بمراكش، ويغريني بالالتحاق بها، ولكنني لم أعر كلامه أي اهتمام، لأن نشأتي في اليتم علمتني أن لا أرجو من أحد شفقة ولا رحمة، ويرحم الله أبا الطيب على قوله:
ومن عرف الأيام معرفتي بها وبالناس… إلخ
فما قضى الله بالاتصال، ساقتني الأقدار إلى مراكش، فخطر لي أن أزور زاوية حتى الرميلة، فجعلت أسأل وصلتها، وما كدت أدخلها حتى لقيته رحمه الله خارجا عن المغرب، وكان من عادته أن يخرج في ذلك الوقت عملا بالوصية القديمة: «يا صاحب المساطر في المسا طر»، فسألته عن نفسه ولم تسبق له بي معرفة، فقال لي: ومن أنت؟، فما كاد يعرف من أنا حتى قال: «أهلا وسهلا، بضاعتنا ردت إلينا»، فأخذني من يدي وخرجنا، وقد وجدت إلى جانبه أخانا الأستاذ الأديب الحين بن أحمد البونعماني، الذي صرنا نطلق عليه بعد ذلك (سيدي الحسن الشاعر)، فخرجنا نحن ثلاثتنا نحو عرصة مولاي عبد السلام العمومية، وجعل يمتحنني في الطريق دون أن أشعر، ويسألني عمن يعرفهم من علماء تارودانت؛ كالشيخ البركة القاضي سيدي موسى بن العربي الذي كان مشتغلا بخصوصية نفسه في شعبة انعزال، وأستاذنا الجليل سيدي أحمد بن الحاج مبارك المصلوت، المتوفى يوم الاثنين 26 رجب عام 1374هـ، قاضيا بتزنيت، وتوجد ترجمته الحافلة ابتداء من صفحة 39 من الجزء 18 من المعسول، وفي أول هذا الجزء أيضا توجد ترجمة القاضي سيدي موسى المذكور، والباشا العلامة سيدي محمد ابن عبد الله البيضاوي الشنكيطي، المتوفى رحمه الله في 11 محرم 1365هـ، الموافق دجنبر 1945م، وقد كان باطنه غير سالم على هذا الباشا لمناقشة حادة بينه وبين صديقه سيدي محمد بن العباس القباج على صفحات (مجلة المغرب) القديمة، فلما اتصلا حَمِد كل منهما أوصاف الآخر، وقد ذكره في الصفحة 157 من رابع (خلال جزولة)، وكنت أعمل على تصفية الجو بينهما، فتم ذلك على نحو ما ذكر.
فلما عدنا إلى الزاوية قرب العشاء تعشينا عشاء بسيطا على سطحها، لأن الوقت وقت مصيف، فهممت بتوديعه فسألني أين سأبيت؟، فقلت: إنني قد أخذت حجرة في نزل، فقال: أو يليق بك أن أكون هنا وتبيت أنت في النزل، ولا تترك ما عسى أن يكون لديك من مال حتى تنفقه على والدتك وإخوتك، ثم أرسل معي ثلاثة من طلبته لمساعدتي في إطلاق حجرة النزل والإتيان بحقيبتي، فلما وصل وقت النوم فرش لي على السطح زربية صغيرة ثناها على فلقين، فمددت يدي لإخراج ما أتوسد من حقيبتي، فقال: تأن حتى أريك ما كان يتوسد عليه أبوك لما كان مع أبي، فوضع آجرتين تحت الزربية، وقال: نم، فلم يكد يقترب الفجر حتى جاء يوقظني، ويقول: إن أبوينا لم يكونا ينامان هذا الوقت حتى ننامه نحن، هكذا أحلتني هذه الجرأة النادرة، فكبر في نفسي، وأخضعني لإراداته من أول يوم، فبقيت معه إلى أن فرق بيننا نفيه الأول، وإذ ذاك ابتدأنا هذه الأعمال التي أنجزناها في وزارة التاج في تاريخ سوس، ولا أدعي أن لي يدا فيما كتبه من ذلك، فهو الكل في الكل، وإنما أنا تابع وممثل ومساعد أمين، وحسبي بذلك شرفا.
وقد استنطقني أحد الحكام الفرنسيين ذات مرة في أكادير، فكان مما سألني عنه؛ أن أخبره كيف عرفت المؤلف وأين؟، فقلت له: إن السؤال هو: كيف تعارف بي وأبوه؟، وأما أنا وهو فإنما وجدنا طريقا مرسوما فاتبعناه.
بهرت الزاوية الدرقاوية بالرميلة المتحولة إلى مدرسة أعين الحسدة والاستعماريين بما تعج به من طلبة بلديين وآفاقيين، وبما يتوارد عليها من مفكرين من المدن الأخرى؛ كالأستاذ محمد غازي، وأبي المزايا الشيخ إبراهيم الكتاني، وأضرابهما، والأعين لها بالمرصاد، والدسائس تحاك، منها ما اطله عليه، وما لم يطلع عليه، ثم جاءت رئاسته لصندوق الجمعية الخيرية، فأرادت السلطات تحويل قسط من ماليتها إلى ما لا فائدة لها فيه فتعصب، فأحست تلك السلطات بأن ما كان بيدها تتصرف فيه كيف تشاء قد استله منها، فجاءت بهم ليساعدوها فاستبدوا عليها، وإذ ذاك تقرر نفيه عن مراكش، ولا بأس أن أسوق هنا قصة تدل على صموده واستعداده لما يطرأ؛ فقد خرجت معه ذات مرة نحو بيت أحد مشاهير العلماء، فلما اقتربنا من دارنا، قال لي: قد بلغني أن هذا يشارك في دسائس تحاك خولي، ففكرت كيف أوهمه أنني لا علم لي بذلك، فخطر لي أن أطلب منه سلفا لا غرض لي به، فتسلفَ منه خمسة وسبعين فرنكا، ظلت موضوعة في محل خاص حتى ردت إليه بعد نفي الأستاذ.
وكانت نتيجة تصلبه تجاه الاستعماريين أن جاء محمد بن العباس أحد أعوان الباشا الحاج التهامي الكلاوي، والذي أصبح بعد ذلك من حلفائه بمراكش، جاء عند شروق شمس يوم الخميس 28 ذي الحجة 1355هـ يطلب الأستاذ ليلبي دعوة الباشا، وكانت العادة أن يبقى مثل هذا عند باب الزاوية إلى أن يجب طلبه، ولكن هذا دخل وسط الزاوية، وصعد الدرج إلى باب دويرة الأستاذ حيث أهله، فلفتت تلك الجرأة أنظارناـ ولم نبال إذ تعودنا رؤية أمثاله منذ اشتغال الأستاذ بأمر الجمعية الخيرية، فإذا الأستاذ يخرج فيذهب مع ابن العباس، فتنغلق عنا أخباره إلى نحو أسبوع، حيث وردت رسالته من (إغرم) بـ(إداوكنسوس) في ناحية تارودانت تحبر بأنه نفي إلى إلغ.
ولكنه لم يكد يستقر في إلغ الفقر اليباب على فاقة ومسغبة حتى أخذ يجمع ما كان ينقصه من مواد التاريخ السوسي، ويقول لنفسه: يريدون أن أكون في سوس، فها أنا ذا فيه أكثر وأحسن مما يريدون.
وإني لآسف لكون هذه الترجمة لا تستطيع أن تضم كل ما لدي لأحشره فيها، حتى لا تصبح أكبر من الكتاب.
ولم يعد من منفاه بصفة تامة نهائية، بعد شتى المحاولات إلا بعد تسع سنوات، أي في سنة 1364هـ، فاستأنف نشاطه بالزاوية مع أفواج أخرى من الطلبة بأوسع وأحسن مما كان، ولما سادت تلك الفكرة التي تزعمها جلالة المغفور له محمد الخامس قدس الله روحه؛ وهي تأسيس المدارس الحرة باسمه واسم الأمراء أنجاله حفظهم الله، وكانت قد تحولت في الرباط مقبرة باب شالة إلى مجموعة مدارس محمد الخامس، عزم أهل مراكش على مثل ذلك على مقابر بني دغوغ بحارة رياض العروس، فكان من حظ الأستاذ أيضا أن يترأس لجنتها، فوقع فيها مثل ما وقع في الجمعية الخيرية مع الفرنسيين، ومن في جانبهم، وشعر الفرنسيون بأنه يسخر منهم حينما يعلن أنه لا هم له في السياسة، وأنه إنما هو رجل علم، ثم في الوقت نفسه يتصلب معهم، ويتزعم التألب ضد أوامرهم.
وكانت أحوال المغرب حتى الحرب العالمية الثانية تتطور بسرعة كبيرة، فبينما الضغط النهائي الذي لا متنفس معه، إذا بالنخبة الوطنية وعلى رأسها جلالة الملك محمد الخامس تداهم فرنسة بوثيقة الاستقلال في 11 يناير 1944م، فتتوصل بها الإقامة العامة بالرباط، ثم يقع صمت مطبق وهدوء من طرفها، ظن البسطاء أنهما من حلم فرنسة، والواقع أنها إنما كانت تتأهب لما وقع بعد ذلك من انتقام، مما لا يسعه المقام هنا، وقد صادف ذلك وجود المترجم في زيارة لتادلة بترخيص من حاكم بلده عند مريد والده سيدي إبراهيم بن البصير، المتوفى عام 1364هـ [المعسول: 12/38]، ولكنه انفلت إلى الدار البيضاء، ونزل عند الفاضل المرحوم سيدي أحمد بن إبراهيم الحاحي، صهر أحمد السوسي الذي بنى جامع درب الكبير بالدار البيضاء، وجعله إماما به، وكان الأستاذ يلبس إذ ذاك حذاءين نعلهما بمطاط عجلات السيارات، وجبة غليظة خشنة من الصوف، وحنيفا غليظا خشنا أسود، ومتعمما بعمامة يتحنك ببعضها عل عادة أهل ما يجاور إلغ من الصحراء، لكي لا يعرف، وكنت آتيه بجرائد ذلك العهد؛ كالسعادة والوداد، وأحمل إليه ما تجدد من الأخبار، وكان قد ترك وثيقة الاستقلال تروج للتوقيع بمراكش، فإذا بالقضية تتطور، وإذا بفرنسة تمد اليد في الناس، وإذا بها تحمل الرئيس السيد الحاج أحمد بالافريج إلى (كورسيكة)، فلما وردتُ على الأستاذ عند الزوال، وحملت إليه ما تجدد من الأخبار خاف أن تبحث عنه مراقبة منفاه فتجده في الدار البيضاء، فتمنى أن لو كان له جناحان ليطير بهما، وتأمل مليا ثم قال لي كلمة تدل على فراسته، ولم تلبث الأيام أن صدقتها؛ قال: «قد قضى الأمر تفرقعت القنبلة»، وقد كانت فرنسة تحاول أن تحلق بين المغاربة من يقبل أن يفاوضها على شيء مما دون الاستقلال، كبعض الإصلاحات الداخلية، أما الآن وقد قيلت كلمة الاستقلال، فكل من قبل أن يتفاوض على ما دونها سيراه الشعب المغربي خائنا استعماريا، ولكن إذا قتل الفرنسيون الحاج أحمد فسيتأخر الاستقلال كثيرا، أما إذا أعماهم الله عنه فتركوه حيا، فإن الاستقلال لن يتأخر أكثر من عشرين سنة، فكتب الله للرئيس الجليل النجاة، وإذا بالاستقلال يتم بعد إحدى عشرة سنة من ذلك. أما كيف وصل الأستاذ إلى منفاه؛ فإن شركاء التاجر الأرضى الفقيه السيد الحاج عابد السوسي قد هيئوا كاميونا يذهب بسلع تجارتهم إلى سوس، فحملوه فيه، وهو بتلك الثياب الخشنة، حتى وصل إلغ، فدخل محله وقبع، وما دمتُ بصدد ذكر فراسته، فلأذكر أنه بعدما سمح له بالتجول في الحواضر نهائيا، جاء إلى الدار البيضاء وكنت لما التق به، فإذا بي يعرض لي ما تعودناه من تلك الأيام، إذ كنت مارا بساحة الباب الكبير صباحا، إذا برئيس الشرطة السرية السياسية يطلب مني اللحاق به إلى مكتبه، وكنت أطن أنه سيسألني عن الأستاذ، فعولت أن أتجاهل له وجوده في الدار البيضاء، لأني لم أره بعد، ولكن لما سلم الله والتقيت بالأستاذ عند الغذاء قصصت عليه ما جرى، فقال لي: إن المغرب سينقسم عن قريب إلى فئتين؛ إحداهما مع سلطات الحماية الفرنسية، والأخرى مع جلالة السلطان، فليختر الإنسان من الآن الجهة التي سينحاش إليها، فلم ينضم إلا قليل حتى خطب السلطان خطبته التاريخية بطنجة عام 1947م، وتكلم عن الاستقلال وعن الجامعة العربية، فغضب لها الفرنسيون، وانجر معهم المتملقون، إذا بالمغرب ينقسم كما قال.
استقر بعد التسريح بمراكش، واستأنف أشغاله في التعليم وأربى فيه على ما كان عليه قبل النفي، وتحسنت العلاقات بينه وبين الباشا الحاج التهامي الكلاوي الذي كان يبرأ له من أن تكون له يد في نفيه السابق، كما تم الاتصال بينه وبين السلطان المرحوم مولانا محمد الخامس قدس الله روحه، كما هو شأن جلالته مع كل من آنس منهم الإخلاص في خدمة الوطن، فعينه جلالته في وفد الحج لسنة 1365هـ، كما عينه في عضوية وفد أحباس الحرمين سنة 1367هـ إلى تونس.
فلما أظلت المغرب السحابة القاتمة التي عقبها خلع جلالة الملك عن العرش، فلم يجد الأستاذ بدا من أن ينحاز إلى أحد الفريقين كما قال، فأوحت إليه شجاعته التي لا تخونه أبدا أَنْ غادر مراكش إلى الدار البيضاء بصفة نهائية في قفزة جريئة، وكانت الدار البيضاء هي مركز الحركة الوطنية، وكان الجو قد فسد ما بين جلالة الملك وباشا مراكش المتزعم لحركة الخلع مدفوعا بيد الفرنسيين، ويقال أن الباشا قال عن الأستاذ المختار أنه فر عنا في وقت اشتدت فيه حاجتنا إليه، ولكن هيهات لهذا الباشا أو غيره أن يزج بالأستاذ في أتون الخيانة المستعمر وحمأتها المنتنة.
فلما حل بالبيضاء انحشر إليه الطلبة من كل فج، والتحق به كثير ممن ضايقتهم الشرطة الفرنسية في مراكش من أصحابه، وانخرطوا كأستاذة في المدارس الحرة، وفي أي عمل يتيسر.
فلما كانت السلطات الاستعمارية تهيئ لخلع السلطان الذي أعياها أمره، ووجدته ركنا منيعا للوطنية، وأسست سجن (أغبالو ن كردوس) بالصحراء، وصارت تسوق إليه كل من تظن أنهم سيعارضون إرادتها في السطو على العرش المغربي، ذهب أعوانها لدار الأستاذ محمد الحمدواي ليلقوا عليه القبض، وكان الأستاذ عنده، فأشار عليه الحمداوي أن يندس بين النساء حتى يخرج الأعوان برب البيت، ثم يذهب هو إلى حاله، فقال له: معاذ الله، أوَ مثلي يختبئ بين النساء، فخرج أمام الأعوان، فلما رآه رئيسهم، ناداه قائلا: إنك قد كفيتنا مشقة أخذك من بيتك، وإن اسمك في لائحة من سنقبض عليهم، فأخذوه من هناك إلى (أغبالو ن كردوس) حتى أفشل الله تلك السياسة، وجعلت تباشير الانفراج تبدو، فكان من أول المسرحين.
ولما من الله برجوع جلالة المولى محمد بن يوسف إلى عرشه ظافرا منتصرا، يحمل الاستقلال والحرية إلى الشعب المغربي، كان الأستاذ فيمن حظوا بثقة جلالته للعضوية في أول حكومة في عهد الاستقلال، إذ كان فيها وزيرا للأوقاف، وفي فاتح مارس 1957م تعين من الوزراء الثلاثة المستشارين بمجلس التاج، حيث ظل إلى أن لقي الله وفيا للثقة التي رآه أهلا لها جلالة مولانا محمد الخامس، وجلالة ولده المولى الحالي مولانا الحسن الثاني أدام الله توفيقه وحفظه.
وفي وزارة التاج استدعاني للحاق به لنتعاون على تخريج ما كان جمعه من أخبار سوس، وهناك اعتكفنا في جد ومواظبة على إخراج كتبه هذه، التي أصبحت المرجع الوحيد في أخبار القطر السوسي، فاشترى الآلات الكاتبة، وجعلنا نضرب عليها المخطوطات، ثم من هناك إلى المطابع بفضالة، والدار البيضاء، والرباط، وتطوان، فقد بدأ أولا بفضالة، ولكن لما رأى مطبعته تماطله تركها، واتصل بمطبعة دار الكتاب بالدار البيضاء، أما الرباط وتطوان فقلما يطبع فيهما، وكان يعمل في ذلك بأقصى ما يمكن من السرعة، حتى إنه كان يمانع في تصحيح الأخطاء في المضروب على الآلة الكاتبة، ويقول: عجلوا فإن الأمر أسرع مما تظنون، فكان كأنما ينعى نفسه بلك، حيث إن أشغال وزارة التاج قليلة، فقد وجدنا ما يكفي من الوقت لإنجاز برنامجنا، وقد كان يقول: إن الموظف كالعبد، إذا كفته الدولة مهامه فيجب عليه أن يعمل، كما أن العبد إذا وفر له سيده ما هو في حاجة إليه، فإن عليه أن يعمل، وإن جلالة الملك قد أسبغ علينا كل ما نتوقف عليه، فلم يبق لنا عذر في التخلي عن العمل بجد ونشاط، ولا يفوتني هنا أن أنوه بمجهودات الأستاذ الفاضل ابن خلدون محمد بن مبارك، فقد أدى معنا ما أنيط به في تحمل وصبر وفضيلة، وقد كان الأستاذ يرهقنا ويضايقنا حتى كنا ربما نفارقه في المساء على شيء من سوء التفاهم، ولكن لا نكابد نصبح حتى ننسى مشاكل الأمس وقلقه ونستأنف العمل، وكان رحمه الله يقول: إنه لما أسندت إليه وزارة التاج، كثر عليه الطالبون للتوظيف معه فيها كفاحا بالوسائط، ولكن لما علم ما ينتظر أن ينجزه فيها من أعمال، انتقى لمساعدته فيها من يرجو منهم الوفاء للصحبة القديمة، وتحمل ما عسى أن يكون في أخلاقه من حزونة كما كان يسميها رحمة الله عليه، بل ربما أريناه نحن ما يسوؤه من حزونة أخلاقنا إذا أرهقنا، فكان يغضي عن ذلك، لما يعلم من أنه إنما هو تدلل منا عليه، لما نعلم من حدبه علينا، وثيق صلتنا به، وإن كان ذلك إنما هو ظاهري لا يعرقل في شيء ما نحن بصدده، ولا ماله في أنفسنا من إجلال وإكبار ووفاء وتقدير.
وكما قدمت في صدر هذه الترجمة من أنه رأى الضوء ونشأ في بلد يصارع أهله الطبيعة ويغالبونها؛ فإنه رحمه الله حافظ كل حياته على متانة نشأته الأولى، ولم تفسده الرفاهية التي عادة تفسد من يخرجون من بيئة إلى بيئة، فلم يبلس قط القميص الإفرنجي العصري الضيق، ولم يزل رحمه الله يلبس القميص الفضفاض السابغ، ويستحم بالماء البارد متى يشاء، ويأكل خبز الشعير والزيت، ويلوت الكسكس باللبن، وينام بعد صلاة العشاء، ويستيقظ قبل الفجر بكثير، ويشتغل بمجرد أن يستيقظ، حتى إذا طلع الفجر صلى ثم عاد إلى العمل إلى أن تطلع الشمس فيفطر، ثم يشتغل إلى الظهر، فيصلي ثم يتغذى، ثم ينام إلى العصر، وقلما يشتغل بالكتابة في المساء، ولم يجده الفجر قط نائما، ولا نام بعده، ولا كسل عن الصلاة، ولا أفحش في نطقه، ولو مزحا، كما أنه ربى أولاده وأهله على ذلك، فكان كل من في بيته يستيقظ عند الفجر، حتى صبيته الصغار والأضياف، وكان إذا سمع أولاده يقولون: دارنا دارنا لدار الحكومة التي سكناها، يقول لهم: ليست هذه دارنا، بل دار السلطان، ولابد أن يطلبها منا يوما ما، أما داركم فاطلبوا من الله أن ييسرها لكم.
وقد كان كأنه عداد الساعة في الحركة الدائبة، وإذا كان الناس يجدون راحتهم في الفراغ، فإن راحته هو في العمل، ومن ذلك: أنه لما علم قبيل نفيه الأول أن شيئا يحاك حوله، جمع أكداسا من المجلات القديمة والروايات المختلفة المواضيع، ويطلب من كل من اتصل به أن يعطيه ما عنده منها، فاشتغل بها عن الاهتمام بالمصير المنتظر حتى قضي الأمر، وهذه الآثار التي خلفها بعده مطبوعة ومخطوطة شاهدة على دؤوب حركته.
فالمطبوع من مؤلفاته: (سوس العالمة) في مجلد واحد، و(خلال جزولة) في أربعة مجلدات، و(المعسول) في عشرين مجلدا، وكان على وشك وضع فهرس له في مجلد خاص، فأدركه الأجل، و(الترياق المداوي) في أخبار والده، و(منية المتطلعين إلى من في الزاوية الإلغية من المنقطعين)، و(إليغ قديما وحديثا) هو هذا، وكان في نيته أن يجعله في مجلدين، فأخرجناه في واحد، وثلاثة أجواء من العشرة التي يتكون منها (من أفواه الرجال)، وبعض (بين الجمود والميع) نشر تباعا في مجلة «دعوة الحق» الحبسية([1]).
وما يزال مخطوطا له: (رجالات العلوم العربية في سوس)، وهو في مجلد ضخم، و(الرؤساء السوسيون) في مجلد، و(مترعات الكؤوس في بعض آثار من أدباء سوس)، و(إتحاف النبيه في مناقب سيدي أحمد الفقيه)، المتوفى في 17 ربيع الأول 1346هـ [المعسول: 5/ص16]، و(رسالة الشباب) ضاع له مخطوطا، و(المجموعة الفقهية) في فتاوى متأخري السوسيين، و(جوف الفرا) في النصوص الأدبية التي لم تناسب كتبه الأخرى، و(طاقة الريحان من روضة الأفنان) في مجلد، و(مجموعة العادات الإلغية)، و(قطائف اللطائف)، و(حول مائدة الغذاء)، جمع فيه ما كان يخبره به السيد إدريس بن منو السوسي الهشتوكي، الذي كان رفيق السلطان المولى عبد الحفيظ ابن المولى الحسن الأول، ووزيره ومفوضه إلى مراكش فما وراءها، بعد أن استقر المولى عبد الحفيظ بفاس، وقد شاهد كثيرا من الأحداث السياسية كعقد الحماية، وكان فلما يتغذى دون أن يرسل عبده لاستدعاء الأستاذ ليتغذى معه، وكانت سكناه بالدرب الذي فيه الزاوية، و(نضائد الديباج في المراسلات بين المختار والقباج)، أي: الأستاذ الأديب سيدي محمد بن العباس القباج الرباطي صاحب كتاب «الأدب العربي في المغرب الأقصى».
وقبل أن أضع قلمي من هذه الترجمة أريد أن أخبر القارئ عن ناحية أخرى من نواحي نفسية الأستاذ المترجم؛ وذلك أنني كنت معه بعد صلاة المغرب من يوم ثامن ذي الحجة من إحدى سنوات أيامنا بزاوية الرميلة، وجلسنا للكتابة، لأن من عادته كما قدمت أن ينفي عنه الهم بالعمل، وكانت الفاقة التامة ضاربة أطنابها، فلا أضحية، ولا أي شيء من ضروريات العيد، فإذا بالسيد عبد الحميد بن الفقيه الناظر السيد محمد بن عبد الله الرجراجي الرباطي، مؤلف تاريخ الصويرة، وكان إذ ذاك ناظرا للأحباس بمراكش يدخل علينا، ويناوله بطاقة صغيرة فيها بعد السلام: «وبعد؛ فخذ من الولد ما بيده لتستعين به على ما أنت بصدده، وادع له، والسلام»، ومع البطاقة قدر لا بأس به من المال، فنشط الأستاذ وقام إلى دويرته المتصلة هناك، وأتى بالشاي وبحبيبات من اللوز والجوز والزبيب، ودعا للولد، فلما خرج الولد ظهر الفرح والنشاط على الأستاذ كأنه يملك مخازن قارون، فإذا بشخص يدخل، فقال له الأستاذ: كيف حالك؟، فقال له: كحال من أظله العيد وله عدة أولاد، وليس في بيته قوت، ولا في جيبه ثمن الأضحية، فقال له الأستاذ: قد نفذ صبرك، أما نحن ففي استطاعتنا أن نصبر إلى الغد، ومد يده إلى ما أتى به ابن الناظر، فأعطاه لذلك الشخص، ولم يترك منه دانقا، فعاد إلى هدوئه ومسكنته وكتابته، واثقا بالله الذي عنده مفاتح الغيب، لا يعلمها إلا هو.
هذا بعض ما نعلمه، وما سمحت لنا الظروف بكتابته عن الأستاذ الجليل محمد المختار السوسي، المتوفى بالرباط في 29 جمادى الثانية عام 1383هـ، الموافق 17 نونبر 1963م رحمه الله وأناله رضاه الأكبر، الذي كان مبتغاه ومطمحه، حتى تقلب في حالته المدنية «رضا الله»، وقد دفن بمقبرة سيدي الخطاب، باب العلو الرباط؟
قبل اختتام هذه الكلمة؛ أرى من الدين المتعين الوفاء به، تقديم جزيل الشكر للأستاذ الفاضل البحاثة المؤرخ النشط النبيه سيدي عبد الوهاب ابن منصور -المدير العام لدار الإذاعة والتلفزة المغربية حالا- الذي أتاح لي هذه الفرصة أيام رئاسته للديوان الملكي حرسه برعايته، ولجناب الأستاذ المتضلع الفاضل الخير البحاثة سيدي عبد اللطيف الخطيب التطواني الرئيس الحالي للديوان الملكي، فقد بذل سلفه في إنجاز هذا المشروع ما أرجو من الله أن يكافئه عليه، والأستاذ البحاثة العلامة سيدي محمد بن عبد الهادي المنوني المكناسي، الذي يمثل عن جدارة علم العلماء، وسمو أخلاقهم، على ما أمدني به من تشجيع وتنشيط، فجزاه الله أحسن ما جازى به محسا عن إحسانه، والسلام.
([1]) وطبع بعده: (معتقل الصحراء) الجزء الأول والثاني، (مدارس سوس العتيقة: نظامها وأساذتها) في كتاب متوسط، (المجموعة الفقهية في الفتاوى السوسية) في جزء واحد، (رجلات العلم العربي في سوس) في جزء واحد، (مشيخة الإلغيين من الحضريين) في كتاب واحد، (الرؤساء السوسيون) في جزء واحد، (أصفى الموارد) في جزء واحد، (ذكريات) في كتيب لطيف. (إضافة من الناسخ)