مع السيرة الذاتية للعلامة رضى الله محمد المختار السوسي جمع وترتيب ابنه ذ.عبد الوافي
ذ محمد السوسي
العلم 17 – 07 – 2009
كان الهدف عندما شرعت في قراءة هذه السيرة الذاتية لهذا الإنسان الفريد في تفكيره وسلوكه ومعاملاته وثقافته وأسلوبه وشاعريته ووطنيته ان استمتع بها وأضيف معلومات جديدة إلى ما سبق لي من معلومات حول الكاتب الذي هو بالفعل فريد في كل شيء، ولكنه في نفس الآن مندمج كامل الاندماج ومتفتح ومنفتح غاية الانفتاح بل يدعو غيره إلى أن يحذو حذوه في هذا الانفتاح وما رأيت فيما قرأت من سير ذاتية من استطاع ان يكون واحدا في الجماعة ومندمجا فيها ولكنه في نفس الوقت منعزل ومتفرد مثل هذا الرجل، فقد وجدت فيه كل ما قرأت له إنسانا ورجلا وعالما ومربيا ووطنيا وأبا عطوفا ولكنه وجدت فيه كذلك إنسانا اعتزاليا لا يتأثر إلا بما يريد ولا ينفعل إلا عندما تقتضي الظروف والأحوال ان ينفعل وهو يستحضر كل ما يريد استحضاره عندما يريد، لقد قال إقبال في بيت شعري له ما معناه: يا من في القافلة سر وحيدا وكن رفيقا.
لقد كان الرجل وحيدا ولكنه رفيق لكل الناس ولكل الأصناف من الناس فمن كان ذا فائدة علمية أو وطنية أو أدبية فهو منه واليه ومن كان مدعيا أو مرائيا فهو ليس منه ولكنه في نفس الآن لا يجرح ولا يعنف وإذا غضب وثار فإنه كما قال سرعان ما يهدأ و يعود لطبعه المسالم، ذاك ما توحي به سيرته وما يصرح به في كتاباته.
وإذا كنا في الحلقة الأولى من هذا الاستعراض لبعض مضامين السيرة الذاتية للرجل والتي رأينا من خلالها التذكير بمواقف الرجل الوطنية الشجاعة ومقاومته للسياسية الاستعمارية بكل أبعادها وتجلياتها اللغوية والدينية والتربوية وكذا التزامه بالصوفية السنية السليمة والسلفية المتفتحة والمومنة بما جاء في الكتاب والسنة الصحيحة الإيمان الذي لا يخل بقدسية النص ولا بدور العقل في الفهم والإدراك فإننا في هذه الحلقة الأخيرة من عرض الكتاب سنقف على بعض الجوانب الإنسانية من شخصية الرجل من خلال ما تضمنته هذه السيرة الذاتية.
الجلد والصبر والتآسي
العادة في الناس أنهم عندما يفقدون أخا أو صديقا أو قريبا أنهم يحزنون ويتألمون اما عند فقد الأولاد ولاسيما إذا كان البكر فإن الوضع أمر آخر، ولكن هذا الرجل الذي يحدثنا عما حصل عند فقد ولده البكر فإن الأمر مختلف تماما لنتابع ما كتب في هذا الصدد:
… قضى الله الذي لا يقضي في الكون إلا هو أن شب الولد عبد الله في حياة مغبوطة فجمع القرآن، وكاد يتقن حفظه في مكتب الزاوية الإلغية، ثم رجع معنا إلى مراكش، حيث سكنا ثانيا 1364ه، فكان حينا في (مدرسة ابن كرير) عند الأستاذ سيدي إبراهيم بن أحمد، فكان يلعب يوما تحت شمس محرقة، فتأثر بها دماغه، فأتين به مع صنوه سعيد، فأدخلناه المستشفة، فآيس من معالجته الطبيب، فرجعت به إلى دارنا في (درب الزاوية) في (باب دكالة)، فتركته ممدودا كأنه في الحشرجة، فلا أقدر أن أجلس عنده، فذهبت إلى درس البخاري في (جامع الحومة)، وعند صلاة العشاء بلغني الخبر أن الله قضى عليه،( قرب آذان العشاء ليلة السابع لثلاثاء ربيع الثاني 1368ه بعد مرض من عشية الجمعة قبل)، هذا وقد بلغ التحمل والتصبر بوالدته أن طبخت عشاء متتنوعا لأضياف عندي قضاة، من بينهم سيدي العسال الشهير، فحين تعشوا وقضوا، أعلنت لهم أن الله إسترد منا وديعته، فثار القاضي قائلا: ما أقسى قلوبكم أيها الشلحيون، أيموت ولدكم الكبير ابن اثني عشر سنة، ثم تستطيعون أن تطبخوا، وأن تسكت الدار، فلا عياط ولا صراخ، فقلت له: وأين موضع التأسي بالسنة، وأين استعمال السنة إلا هنا
إنما الصبر عند الصدمة الأولى وفي الصباح بعد أن قرأنا درس (( المختصر)) ذكرت ما وقع للطلبة، بعد ما وصيت من جهز الصبي، فذهبنا حتى واريناه في (مقبرة باب دكالة) ثم توالت قصائد أدبية تعزية فيه لأصحابنا المراكشيين، فقلت في نفسي: هذا حظ عبد الله في الحياة: قصائد في مولده، وقصائد في وفاته، ولكن هل ذلك يعوضنا منه ما فاتنا، فاللهم ألحقنا به مسلمين غير مفتونين، (كتب هذا في 20 شوال 1382ه) وقد اندمل الجرح، وجاء أولاد آخرون: سعيد،
رسالة لأخيه وأسباب السعادة:
كتب إليه أخوه رسالة يشكون إليه في أمر عائلي وموقف بعض الناس الفضوليين فواساه وكانت فرصة بين فيها الرجل أسباب سعادته في الحياة:
وبعد فيا أخي، أفضي إليك، بل أفضي إلى التاريخ بوساطتك، أنني أحيا منذ نعومة أظفاري، حياة قلبية سعيدة، حتى كان ذلك عادة مألوفة لدي، فلا يحوم أي كدر باطني على قلبي، كذلك جُبلْتُ، ثم لما زاولت معاشرة الناس، صرت أزداد في هذه الحياة السعيدة، ولما تأملت وأمعنت النظر في أسباب سعادتي قبل مخالطة أمشاج من الناس وبعدها، ظهر لي أن الأسباب هي هذه:
1/ لا أحمل لأحد حقدا، ولا يحوم بي حسد لأي إنسان، فلينل من شاء ما شاء، وليتملَّ بذلك كما يريد، فإن كان هناك شيء، فإنما هي الغبطة التي لا تتأصل إلا في نفوس عشاق المعالي، وخُطَّاب المثل العليا في كل مقام، وهذه الخصلة نعمة من الله على أخيك، وكلما آنست الناس يحقد بعضهم على بعض، رجعت إلى نفسي فأقول: الحمد لله، الذي عافني مما ابتلى به كثيرا من الناس، وقد أيقنت أن ما كان من نصيبي لا بد منه، فإن الأسباب التي تيسرني إليه، تأتي عفوا، فأريح وأستريح.
2/ غلبة إيماني بالله وثقتي به في كل أموري، أكل له الاختيار من أعماق قلبي، ثم له وحده أن يتمم ما شاء مما ابتدأته، أو يقطعه على حسب علمه المحيط، واختياره ومحض مشيئته، ( وعلى الله فليتوكل المؤمنون)، والعجيب الذي أشاهده دائما، أن هذا الذي جُبلت عليه من كل هذا نتائج عجيبة، وتوفيق غريب، حتى أن من لا يغرف هذا، أولا يعتقد أنني متصف به، يحسب أنني داهية ماهر في استخلاص النتائج المتفوقة، والواقع أنني إلى السذاجة أقرب مني إلى غيرها، أنني لا أفرط في الأسباب، ولكن لا أتكل عليها، بل أتكل في باطني على ربي وحده، فهو يفعل بي ما شاء، وهذا شيء جُبلت عليه، إليه أرجع في مشاكلي، ونحوه أتوجه في نظراتي.
3/ غلبة الأريحية على ضميري، فيسود علي نسيان ما عسى أن يساورني من مساءات الدهر، فلا أفكر كثيرا فيما يجرني إلى الكدر، ولهذا لا أحب أن أختلي بنفسي وحدي، فلا أجلس إلا إلى كتاب أو إلى صديق، واما إن لجأت إلى الجلوس منفردا، وترخى علي الوحدة عَزَاليها، فقد يدهم علي على غِرّة شعور لا أكره لدَيّ منه، وهذا الشعور هو منبع الأحاسيس السوداء، ومثار الوجدانيات التي تجتث السرور من الفؤاد اجتثاثا، وهل هناك حياة أعلى من حياة المَفَاريح المَفَاكِية المَمَارِيح الذين يضحكون للعالم، ثم يجزيهم العالم ضحكا إلى ضحك.
وبعد، فلم يكن في مقصودي أن أسطر لك ما أعلمُه من نفسي من هذا ومثله، مما لا ينبغي أن يقوله العاقل تبجُّجا، إلا تحدثا بنعم الله التي لا تحصى ( وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها) وإنما مقصودي أن أسمعك أيها الأستاذ درسا من دروس أخيك، الذي يعز عليه أن يرى منك أدنى تأثر، فإنك كما أعهدك تتحمل كثيرا، ثم تحمل على نفسك ما فوق طاقتك، وأما أنا فقلما أتحمل، حتى إن فاجأني غضب فقد علمت كيف تثور مني زوبعة ثوران بركان فيزول، ولكن بعد ثوان فقط، يرجع الندم الذي يرد القلب بردا وسلاما.
وزير المفاكهة والمؤانسة:
تحت هذا العنوان أورد جامع السيرة بعض القصائد التي قالها الشاعر الأديب أثناء شغله منصب الوزارة في السنوات الأولى من الاستقلال وقبل هذه القصائد جاءت الفقرة التالية:
… آمنا بالله وبتصاريف الأقدار، فيعلم الله أنني امرؤ خلقت للعلم وحده، وأجد في المباحثة في مسائله كل سؤلي، وأنا كأديب تغلب عليّ المفاكهة والمؤانسة، والابتعاد عن التجهم والقطوب، كذلك كنت أزمانا…
ثرثرة الوزير
وقدم الفقيد للقصيدة بما يلي،
كنت يوما أثناء سنة 1375 ه مع أخي وسيدي العلامة التطواني السلوي راكبا في سيارتنا، فصرنا في الحديث أشباه السكارى، بحديث ممتع سقطت فيه الموازين، يُلقَى الكلام على عواهنه، وقد أخذت بناصية الحديث، فثرثرت عليه ما شاء الله، حتى سكت أخيرا، وأنا لا أزال في التفيهق، حتى أصابه غثيان من السير، بين شعاب نقطعها إلى زيارة الشيخ أبي يعزى، فقلت هذه القصيدة إرتجالا، ولذلك جاءت هذيانا آخر:
ما زلت أصلي أذنه هذيانا
حتى إستحال بصدره غَثَيانا
أسفي على خير الرفاق محمّلا
مني بما ثرثرتُه صَرَفانا
قد طاب لي الهذَرُ المدفّقُ من فمي
ثرّاً كوادٍ طافحٍ سَيَلانا
خُطَبُ إلى خطب بلا معنى ولا
قصد تصُكُّ بصخرها الاذانا
عسْفُ اللسان فإن يكن ميْل إلي
فَنَنٍ يحولُ بعسفه أفنانا
تجري الركوبةُ والحديثُ تَفَيْهُقُ
تجري عواهنُه بنا جَرَيَانا
حينا أُغرِّبُ في كلام وتارة
أنحُو إلى تشريفه ميداناَ
حتى استثرت القيءَ بالهذيان من
خير الرفاق فتَبّضهُ هَذَيَانا
الوزير في السوق:
واذا قصد الشاعر الوزير السوق ككل الناس فإن هذا بالنسبة اليه بثير ما يثير من مشاعر اصطادها ودونها وهي فيها ما فيها لمن تأمل:
في يوم السبت 23 رمضان 1375ه، خرج الكاتب مع العلامة سيدي محمد التطواني، وأعجوبة الشباب سيدي عبد العزيز بن عبد الله الرباطي، إلى سوق السبت في تمارة، فأمضيا النهار في نوادر، فاشتريت بيضا من عجوز، ثم أويت بعد ما جلت في السوق إلى السيارة أنتظرهما، فاندفعت بي الشعرورية فقلت ما يأتي، وقد كان القصد شراء اللحم والبيض والخضر:
أللبيض واللحم السمين وللخضر
يجشم من وزَّرتموه إلى السفرْ؟
وزارتنا أهل المعالي هل إنها
من الوزْرِ يا للعالمين أو الوزَرْ
أليس من المعتاد أن الوزير في
وزارته مثل السِّرار على القمَرْ
يُحجّب عن كل العيون تعاظما
فإن يبدُ يوما بين أبهةٍ بهرْ
فأي ابتذال للوزير كأن يُرى
بمُحْتَشَدَات ليس فيها بمنتظر
فيا عجبا هذا الوزير بنفسه
معاليه وسط السوق من جملة البشرْ
يجول على رجليه ليس بلافت
إليه بهيبات الوزارات مَن نظرْ
يخوض زحام السوق خوضا فلم يذر
مَرَابط حُمْر لا ولا مجزر البَقَرْ
يساوم كل العارضين فمِن ذَوي
دجاج إلى أهل الكزابر والجزرْ
فكم مُشترى أقعى الوزير مما كسا
عليه عجوزا من بقية من غبرْ
يبادلها الألحاظ وقت مِكاسِه
كأن لم يغازل قبل من أعين الحورْ
ألا فانظروا يا قوم فلتسمعوا وعُوا
لكي تدركوا يا قوم بالسمع والبصرْ
أمستحق التوزير من ليس حافظا
لمنصبه ما يستحقه من الخطرْ
أللبخل أو للأريحية ما يُرى
عليه وزير البدو قولوا بني الحضرْ
فحكمكم الحكم المسمط والذي
يحكمكم في مثلها فقد اعتذرْ
وزارة متعكرشة:
في 22 أبريل الموافق 10 رمضان 1375 ه خرجت في السيارة، مع الأخوين العلامتين سيدي أحمد بن إبراهيم الوفقاوي، وسيدي مصطفى بن مبارك الرباطي، فجرى كلام مني فيه تواضع، فحاجاني في تواضعي بأنه تواضع مزيف، وهو كما لا يخفى أقبح من تكبر صريح، وقد كنا إذاك في طريقنا إلى سوق الأحد في ولجة سلا، وهذا السوق المسمى (عكراش)، فلما وقفنا في السوق قلت لهما مخاطبا الوفقاوي بالتعيين:
أتذكر إذ تعكرشت الوزارة
وزيف تواضعي فيه الامارةْ
ومن يك كاتما عارا فإني
وزير ليس يكتم عنك عارهْ
وقد زعم الوفقاوي أن البيت مما ينبغي أن لا يذهب، كما يذهب كثير من أخواتها التي تلقى على عواهن الكلام، ثم تطلق بلا تقيد إلى عدمها العديم،فلذالك قيدتها هنا لمن سيسمعون بعد بوزارة متعكرشة.
الوزير يركب الخنفساء :
لي سيارتان، صغرى سوداء نسميها الخنفساء، وأخرى كبرى رسمية فخمة نسميها العروس، فجرت مذاكرة مع سيدي مصطفى بن مبارك، وقد كان يذم الصغيرة، ويقول إنها لا تليق بمقام الوزارة، فقلت عن لسانه:
أفي الخنفساء أتاك الوز
ير أم في عروس تَهَادَت بهِ
وزير ويرضى المرور على
خَنَافِسَ تُزْرى بمنصبِهِ
فإن يك مذهبه أن يُرَى
كذلك يُتْرَكْ لمذهبهِ
أم أن الحقيقة أن العلا
بنفس الفتى لا بركبِهِ
رسالة الاستاذ علال الفاسي
ونختم هذه اللقطات من السيرة الذاتية بشيء من التاريخ الذي يجب البحث في شأنه وهو ما ورد في وصفه لرحلته في طريقه الى المنفى انطلاقا من مدينة مراكش حيث كتب:
….لازمت الصمت ولم أنطق ببنت شفة، حتى حادينا مشهد (مولاي إبراهيم) فرأيت أن الأفضل أن أخرج من ذلك الصمت المخجل… فالتفت إلى المحجوب وأخال أن هذا هو اسم العبد الغليظ الذي عن يميني فقلت له: أهذا هو (مولاي إبراهيم)، فقال لي: نعم سيدي، وهو يبتسم في وجهي … ثم صرنا نطرق الحديث بمناسبة تلك التعاريج التي في (وادي نفيس)… ثم وقفت السيارة وقفة إما لتموينها بالماء، وإما لمطالعة آلاتها، فنزل العبد الميامن، فقلت له : إنني أيضا أريد إراقة الماء، فقال : نعم يا سيدي، فأبصرني الباعث، فأهوى كأنه يمنعني من النزول، فنهره المحجوب فقال: دع الفقيه، فأويت تحت قنطرة صغيرة، فكنت وأنا أريق الماء أتناول رسالة من الأخ علال، كان كتبها لي بالأمس، جوابا عن شيء طلبته منه، وفيها تحريضي وتشجيعي على أن يندمج في الشباب كل المخلصين للوطنية، ويقول: إننا ما زلنا ننظر أن يملأ فراغ لا يملأه إلا الوطنيون المخلصون من مراكش، وقد كانت الرسالة في جيبي، ولعدم معرفتي ما سأتعرض له أمامي، خفت من التفتيش، فأقع حول الرسالة فيما لا أحب أن أقع فيه، من إثارة الأفكار التي كانت مني وبسببي، ولا أريد إثارتها، مع ما فيها من سر آخر،
أجابني عنه زعيمنا الجليل، فهناك دفنت الرسالة بعد تمزيقها، فقد كنت بها ضنينا، وما أجدرها بالتخليد في بطون التاريخ، وما أحقني ببقائها…
لست أدري هل ضمن الفقيد السر الذي كان ضمن هذه الرسالة إليه من الزعيم علال في كتاب آخر أو انه سر دفن مع الأوراق الممزقة التي دفنت في تعاريج جبال الأطلس وطريق تيزين تايست الوعرة.
هذه لقطات ارتأيت ان اختم بها هذا العرض لكتاب السيرة الذاتية وهو كتاب ممتع ومفيد ويعتبر إضافة مهمة للمكتبة المغربية ولتراث الفقيد المختار السوسي رحمه الله.