رسائل محمد المختار السوسي
للتهامي المعروفي الرباطي معي اخوة أكيدة، كان هو الذي غرسها بيده، ثم كان هو الذي تعهدها بالسقيا والتشذيب، حتى أثمرت يانعا.
نالت (الحمراء) أول 48 فصادفته أمامي، فتعرف معي، لا أدري كيف، وانما اتذكر أنه أول من أنسني في (الحمراء) بعد نزولي بها أثر رجوعي من رحلتي العلمية.
كان يسكن في درب يجاور (الرميلة) فكان يواصلني صباح مساء، كلما تفرغ من أداء وظيفته في المحافظة العقارية، التي كان فيها مستخدما، فكثيرا ما أفطر أو أتعشى أو أتغذى معه في داره، وكان عزبا فريدا، وكان بصيرا فاقدا، عجم اخلاق الطبقات في (الحمراء)، فكثيرا ما يبقى ساعات يملي من أخبار فلان، ومن أسرار فلان، حتى يشده جليسه من أين يعرف العجر والبجر، ثم كان مع ذلك عزوفا أنوفا، لم أطلع له على سوأة، وكان يأخذ عني بعض دروس عربية إذ ذاك، وكان وطنيا غيورا جسورا، ولذلك لما دق ناقوس اللطيف ضد= الظهير البربري = المشؤوم، أسر إلى أنه سيغامر في ذلك، وأوعز إلى أن لا أقتفي خطاه، لما يريد أن أؤديه للناس بوساطة التعليم، فكان العجب أن قدر أن يقلب (الحمراء) على سعتها وحده بتلك الدعاية، حتى غلى فيها ما غلى في المدن الأخرى، وكان يذهب إلى الأسواق، فيحادث كل أحد بما تقوم به (فاس) و(سلا) و(الرباط)، ويحفز الناس ويستفز الشعور والعواطف، حتى تنبهت له المراقبة، فأتاني عشية، فقال: انه أوعز إلى أن أغادر فارق وظيفته، وغادر (الحمراء) الى (الرباط)، ثم كان ما كان، فبقي في (الرباط) ماشاء الله حتى أصبح خاوي الوفاض، لايجد مذاقا، وكان يحكي لي ذلك ويقول:
كم من إنسان كان يشكر الوطنية بأسانه، ولكنها لم تتصل بجيبه، فاما ان يبقى الوطنيون بلا بطون تسغب، وأما أن يماشوا الدهر، مادامت الامة لاتنظم شؤونها التي تقوم بالمطرودين من معاشاتهم، فيتضورون جوعا.
بعد حين تهيأ له أن يراجع نفس وظيفته في محافظة (مكناس) حيث لايزال الى الآن.
وجدت له عندي بطاقات، منها هذه:
سيدنا الفقيه الاجل شيخنا سيدي محمد المختار السوسي، أما بعد: فكيف أنتم، وكيف أحوالكم المرضية، فإننا نقدم لكم تهانينا بعيد الأضحى، وقد اشتقت اليك جدا، وفي العزم أن أزوركم، ويدكم عندنا عظيمة، ولو كانت أمتنا أمة حية لكان لكم فيها ما يليق لأمثالكم من العلماء المصلحين، ولكن صبرا، فجزاء الله أفضل من كل جزاء، غير أن الأمم إذا لم تكن أهلا للاصلاح لايكون فيها المصلحون، ونطلب الله أن يعينكم ويسددكم.
حيا الله الأخ المعروفي وبياه، فواشوقاه إلى لقياه في (الحمراء) من الأدباء ثلة: محمد بن إبراهيم، واحمد بوستة، وعبد القادر المسفيوي (1)، وعبد القادر بن الحسن، وعبد الله بن إبراهيم، وأحمد النور، فمنهم من خبرته وعرفت مقدرته، ومنهم من أسمع عنه ولم أقرأ له شيئا، فضلا عن أن يكون عندي له، وأكبر هؤلاء شانا وأعلاهم كعبا وأذلقهم لسانا، شاعر (الحمراء) محمد بن ابراهيم، فقد عرفت مقدرته، وسبرت غوره، وعندي من بنات فكره الآن قصيدتان طالما أنست بهما، وتذكرت بروحهما روائح البهجة، حياه الله، وقد كان بيني وبينه صحبة ومعرفة من قديم، وان كنا لانتلاقى كثيرا، بل لا نتراءى الا لماما.
14 رجب 1354 هـ
انتهى القصيد العجيب …. وقد ظهرت فيه مقدرة الشاعر،ن ونفسيته الشاعرية الفائقة، والرجل ذو قريحة سيالة، ولسان مفلق، وشعر مطبوع، وإنما يعوزه أحيانا قليلة جدا بعض ما يتعلق بعلم العربية لقصر باعه فيها،ن وما ذلك بضائره مادام في هذه السماء من الشعر الحي، وكأين من عربي متقن لهذا العلم يتسامي إلى قول الشعر، ثم لا يدرك فيه أدنى درجة لشاعر (الحمراء) العظيم المفوه، وللتاريخ أذكر هنا انه أول من سمعت عنه ما وصلت اليه الآداب العربية اليوم، وذلك في حدود 1337 هـ، وكان في النقد بالدرجة العليا، في كل ما يرجع الى الذوق، وهو في الحقيقة من الرعيل الاول من شعراء الشباب، ومجموعة شعره قيمة، وقد سمعت أنه هذبها ونقحها وجمعها، وبذلك يزيل ـ على ما نرى ـ بعض ما يراه القاريء من بعض أبيات قليلة جدا، في هاتين القصيدتين الفذتين، على أن كل ما لم يظهر لنا مما علقنا عليه ـ ب (كذا) انما هو من تحريف ناسخ نقلت من خطه.
كان شاعرنا تلقى العربية باديء ذي بدء عن سيدي أحمد بن الحسين بيبيس الاختصاصي، شارطه له أبوه، وكان لهذا المام ببعض أشعار سيدي الطاهرالشاعر الايفراني، فمن هنا تسربت اليه البذرة الاولى في الادب. ثم لم يزل يتعهد الفن و ويترقى بالمزاولة، وقد أعانه سيلان قريحته، وطبعه المصقول، وذهنه المتوقد، وما يروح من كتب الادب، حتى كان في هذه المكانة العليا، وقد كان أولا مولعا بالاكباب على أشعار الادباء، من أهل مدرسة القاضي الفاضل في القرون الوسطى،. ومنه سمعت أول مرة ذكر رجال من هذه الحلبة، كشيخ شيوخ حماة، وابن نباتة، وكثيرين غيرهما، فجرني ذلك حتى اقتديت به، ثم تملص من ذلك قلبي، فأعتنق الشعر الحضري العصري، فأيده من السليقة العجيبة ما خانني، فكان في الطبقة العليا المحلقة اليوم، على حين أنني الذي كنت آخذ نفسي باقتفاء آثاره، وقعت دون ذلك بكثير، لاسفافي كلما حكت قريضا أو نسجت من قريحة.
إنني أقر بما لهذا الشاعر من تأثير غير مباشر في أول حياتي الشعرية، فبه ارتطمت في التورية وما اليها، مما يولع به القاضي الفاضل واتباعه ثم به حاولت أن اتملص من ذلك النمط كما تملص منه أيضا، ولكنني لم أدرك شأوه، ولا شققت غباره، مع ولوعي بالفن، وأحسب أن الذي عسف بي عن طريقه، كثرة مزاولتي الفنون، وعدم اتساع خيالي، ونضوب قريحتي، وأحد هاذين – وكلاهما حقيقي مني – كاف في أن أتأخر عن غاية شاعر (الحمراء)، الذي توفر على الفن، وما شاه بطبعه المتفتح، وخياله الواسع، وقريحته المتفجرة، ثم كانت له وراء هذا كله حياة كحياة الشعراء المرحين الأريحيين، ولا ريب أن كل هذه دواع طبيعية إلى نيل مثل تلك الدرجة السامية التي يتذبذب دونها أمثالي.
أول ما عرفت شاعر (الحمراء) في يوم لاقيته في (الجامع اليوسفي)، وكان هو السبب في التعرف، لأنه زار مدرسة (الساعدات) فلم يصادفني هناك، فألم ببعض خبري، فحين نزلت بـ(مراكش)، مجاورا في المدرسة (اليوسفية) 1338 هـ وتعارفنا، ثم تأصل التعارف بنا، ينشدني وأنشده، وإن كنا لا نتلاقى إلا قليلا جدا، ثم بعد أن كنت في (فاس) و(الرباط) 47/43 لم أعد أراه إلا مصادفة، وكذلك بعد عودتي إلى (الحمراء) 48، ثم لا اتصال بيني وبينه إلا قليلا مع اتصال الصحبة من بعيد، فلا أسمع عنه ولا يسمع مني إلا الخير، وكثيرا ما أقول: لو كان الباشا الاكلاوي يعرف حق قدر الشاعر الذي له فيه قصائد رائعة، وأقوال خالدة، لأسس له أسرة في دار يقوم بكل مؤونتها، لأن الشاعر لا يوكيء، على درهم، فبقي عزبا، لا يأوى إلى محل خاص، وقد كان الباشا استكتبه بمرتب عنده، ولكن ذلك لا يكفي مثل شاعرنا الذي نرجو له كل رفاهية واستقرار حياة، وكان رجلا عظيما في حسن العهد، يكافح عن كل من بينه وبينه صحبة في غيابه.
وأغرب ما في شاعرنا، تلك الأريحية النادرة العجيبة، فقد أنشدنا يوما – وهو في أعلى درجات ارتياحه – قصيدة نفيسة، يصف فيها نفسه متتبعا لأفكاره ولأخلاقه، وكل ما يتصف به، ثم هو في القصيدة ذو صراحة لا مجمجمة فيها.
هيأ الله له أداء الفريضة، وزيارة (مصر) سنة 1355 فجاء – ذكره الله بالخيرات – حتى ودعني في محلي، ولا أنسى له ما رأيته إذذاك وما أراه منه دائما من احترام لا يصدر إلا من نبيل كريم الأرومة، شريف النفس.
كان ذلك الموقف آخر عهدي بشاعر (الحمراء)، ثم كان شعره وذكرياته تؤنسني في منفاي، وهل يستحق الاعتناء إلا من كان لك خير صاحب مشهدا، وخير مذكور يوم تطوف الذكريات.
هوامش:
(-) اتصل بنا نعيه وأنه توفي: 1361/2/23 هـ.
(1) كانت مخاطبات أدبية بيني وبين هذا الأديب الذي كان لي وكنت له، وأتأسف اليوم حين لم أجد إزائي منها شيئا فأتلذذ بتخليده هنا، كما آسف لعدم وجود شيء عندي للثلاثة بعده.
(2) لعله: التلفت.
(3) – كذا –
(4) – كذا –
(5) يعني ابن العباس القباج الأديب الكبير الرباطي.
(6) لعله ما بقي الدهر.
(7) الأرب هنا كحمل، ومقصوده الأرب كسبب.
(8) – كذا –
(9) يعني الباشا الحاج التهامي الكلاوي.
(10) معطوف على خمرة في البيت قبل.
(11) – كذا –
إعداد: ص- بوعلام
8/9/2011